أليست هكذا هي الدنيا؟ أليس هذا هو الواقع؟ إجابات مبتورة وحقائق مُلفّقة وتفاصيل مخفية. ولا يعيننا على الحياة سوى النسيان!
حاول أن تَتَمَلَّك إنسانًا وستكون قد خسرت… يظن الكثير أن بإمكانهم امتلاكك ولكنهم لا يستطيعون… لا توجد طريقة تُمكِّنَك من الحفاظ على شيء يريد المغادرة، هل تفهم؟ بإمكانك فقط أن تحب ما حولك بينما هو حولك… قد يكون لنا أبناء، الآن أو مستقبلاً، لكنهم هدايا، وليسوا أملاكًا. لهم حرية الرحيل أيضًا في أي وقت. لا يمكنك استغلالهم، أو إساءة معاملتهم، أو إثقالهم بطبقاتٍ من عُقَدَك الاجتماعية والدينية التي لم تستطع حلها.الكاتبة الإنجليزية - سارا فيلدينج
ألحّ عَلَيّ هذا النص أثناء قراءتي للرواية. ورغم أنني كنت قد قرأت هذا الاقتباس منذ ما يقرب من خمس سنوات، إلا أن أحداث الرواية استحثتني على تذكّره. استدعته من ظلمات النسيان ليشرق على روحي كشمس منتصف الليل! وتحت وهج الألم المُنساب من الاقتباس سطعت داخلي حقيقة أن المشاكل الوجودية للإنسان لا تتغير. مهما اختلفت الجنسية ومهما اختلف المكان والزمان، ومهما تباينت الظروف والعقائد والعادات والتقاليد؛ تظل المشكلات الإنسانية متشابهة حدّ التطابق.
مَن الأب/الأم/الوطن؟
في المثل الشعبي الدارج يُقال ”الأب أو الأم هم من يقومون بتربية وتنشئة الطفل وليس من يلدوه“ والمَثَل هنا يُصوّر الأثر العظيم للاهتمام والحنان والرعاية من المُربّي تجاه الطفل.
إيڤلين الأرملة الأمريكية المُتعطشة للأمومة التي حُرمت منها، وجدت سعادتها وراحتها في تخفيف وعلاج آلام الآخرين في المستشفى. منحت كل حُبها الأمومي المكتوم لآدم وچوزيف. الأول بعدما تركته أمه وماتت بعد أن أُنقذ من العبودية، والثاني الذي منحه القدر لها!
بهذه العاطفة والمشاعر الإنسانية التي أوقفتها إيڤلين لرعاية المرضى من أجل الرب، وقعت إيڤلين في الخطيئة؛ ألا وهي الكذب على خَلَف وإخفاء معيوف عنه. لماذا قررت إيڤلين سلب خلف؟ ما الذي دفعها إلى خيار صعب مثل هذا الخيار وهي تعلم علم اليقين أن العواقب ستكون وخيمة في هذه البلد بعادات أهلها.
أرى بعين الخيال فزعها وروعها من أن يعود الطفل المريض إلى الصحراء ليموت هناك. بالتأكيد لم تفهم إيڤلين ولن تفهم حياة مختلفة عنها في كل شيء. لن تفهم حرية الصحراء وعاداتهم. لا بُد أنها شعرت بتجاهل خلف للطفل. كيف لها أن تفهم كيف يأتي أب بابنه الرضيع الذي على شفا الموت بسبب سوء تغذية شديد، ثم يُترك الطفل لمدة شهر بدون أن يسأل عنه أحد. لا بُد أن مبررها حينها أن الطفل سيموت لو عاد إلى المجتمع الذي أتى منه. ربما تصورت المعاناة التي سيعانيها الطفل حينها. كيف يمكنها أن تتخيل الحب والرحمة والاهتمام في بيئة تستمر بالانتخاب الطبيعي! يصعب على الإنسان أن يتلمّس الجميل في تفاصيل حياة البشر البعيدة عنه غير المُعاصِر لها. الإنسان يألف الشيء ويعتاد عليه، ومِن ثَمّ يمكنه حينها إدراك جماله. بيئة الفلاح أو بيئة البدوي أو بيئة العامل كلها بيئات غريبة عن كل واحد منهم. بهذه التصورات التي تبلغ حد الاستنكار، يُمكنها أن تُقرّب لنا الصورة بشكل أوضح: كيف تنظر إيڤلين لخلف وكيف ينظر خلف لإيڤلين وللمجتمع المدني كله.
ربما في لحظة أنانية أخطأت إيڤلين، لكن الأدهى أن خطأها ذلك كان هو عين ما كان يرغب فيه خلف!
هل كان معيوف سيعيش لو بقى مع خلف دون علاج؟ هل كان خلف سيُتابع علاجه في المستشفى الأمريكاني؟ هل سيصبر؟ أغلب الظن أنه لن يفعل. الارتياح البادي على وجه أبيه حين تلقى خبر وفاة رضيعه بالتأكيد قد أجاب على هذا التساؤل والذي بالتأكيد قد نهش قلب إيڤلين، وهو نفسه الذي منحها الطمأنينة بصواب القرار -الخاطئ- الذي اتخذته بالإبقاء على الرضيع.
لماذا الإصرار؟
يا ويل البدوي بلا أولاد، و يا ويل أولاد البدو بلا أُم.
نغّص هذا المثل حياة خَلف منذ موت أم معيوف. إن كان الويل لأولاد البدو بلا أُم، فكيف الحال مع ابنٍ عليل؟! كيف بطفل يثير الخوف في قلوب المؤمنين بالموروثات الشعبية؟
استنفد خلف جميع محاولاته لإنقاذ رضيعه. طاف به على كل من ذاع صيته في محيطه لعلاج الأطفال. لكن لم ينجح أحد في علاج طفله. بل ابتُلي الطفل وتعذّب بِكَمٍّ من المسامير الساخنة، وحظ وافر من الحرق على جسده. ضاقت نفس خلف لرؤية وليده يحيا في هذا العذاب. تمنّى له الراحة لكنها لم تأتِ. حاول شيطان خلف أن يفعلها، لكن الأخير تراجع في اللحظة الأخيرة. لهذا فقط كانت المستشفى الأمريكاني هي وسيلة الخلاص الحقيقي التي أتت له على طبق من ذهب.
خلف الذي كان مرتاحًا لأن هناك من رغب في ابنه وعطف عليه بعد أن هجرته وأهملته عشيرته، وبعد رفض نساؤها إيوائه. هنا في الأمريكاني رَحّبوا به وآووه بل وسمحوا له بالبقاء في معيّتهم. خلف الذي لم يُسَمّ ابنه انتظارًا لموته، كان تواقًا لسماع خبر موت الرضيع. وعلى الأرجح عندما سمع الخبر المكذوب، ارتاح قلبه ورحل.
لكننا لو تأملنا إصرار خلف المُفاجئ والمستميت لاسترجاع معيوف. ربما سنشعر ببعض الغرابة من هذا التغيّر المُفاجئ في موقفه. ربما نظن أن دافع خلف هو شعوره بأنه قد تعرض للخداع وأن ابنه فلذة كبده قد اُختطِف منه عنوة. بالتأكيد هو دافع عظيم وحاسم لتحفيزه على استرداد ابنه المُختطف. لكن هل كان ذلك فعلًأ هو السبب الحقيقي؟
من خلال الرواية نعرف أن خلف لم يكن راغبًا في استعادة معيوف. كان معيوف بالنسبة له صفحة في حياته وانتهت. نلاحظ عندما أبلغه قُبلان بشكوكه حين رأى معيوف صدفة، أن خلف كان رافضًا بشدة أن يُصدّق ذلك الخبر، بل وحتى عندما سلّم بأنه هو من سُلب منه ذات يوم، ردّ خلف بكل وضوح ”ما أحتاج أحد.“
لكن غضب قبلان وتوبيخه ولومه لعمّه هو ما أفلح في النهاية في استفزاز خلف وأرغمه على الرضوخ لرغبة قُبلان للذهاب إلى المستشفى الأمريكاني.
إلحاح قُبلان لاستعادة معيوف، وتغيّر موقف خلف.يعود في حقيقة الأمر إلى سببين أساسيين:
السبب الأول وهو المنفعة المادية: معيوف ذكر، والذكر في الصحراء وفي حياة البدو ليس كالأنثى. استعادته ستفيد الأب بغض النظر عن كون هذا الذكر مُرحب به أو لا، بغض النظر إن كان خلف تخلّى عنه من قبل أو لا، بغض النظر عن إن كان خلف يرغب في حق البنوة واستعادة معيوف دون أن يُراعي حق الرعاية فيه أو لا.
السبب الثاني وهو الأهم والحاسم: هو الشعور بالانتصار ضد السيدة النصرانية التي اختطفت طفلًا مسلمًا ووجوب استعادته. وهذه الفزعة ليست في حقيقة الأمر لمجرد أن الابن من جماعتهم، ولا من أجل منحه الرعاية والحب والاحترام، بل من أجل كرامتهم، ومن أجل الانتصار على الأنجاس الأمريكان (على حد تعبيرهم في الرواية). فقط من أجل ألا يتركوا ولدهم واقعًا في براثن مِلّة أخرى.
عافت جميع المرضعات معيوف. نفرت منه عشيرته. كاد يموت بسبب ذلك. بل كاد يتخلص منه أقرب الناس له. لكن لا مشكلة طالما أنه في مِلّتنا. وهذا هو لُب المشكلة الحقيقية. أن الفعل ذاته -استعادة الطفل من إيڤلين- كان صحيحًا. لكن هل كان أبوه أهلًا للرعاية؟ ربما لا تُهم الإجابة!
في رأيي أن خلف قد جبن عن ترك معيوف وتجاهله مرة أخرى في الحاضر -وهو في السادسة من عمره- في الأمريكاني. خاف من اللوم من مجتمعه. خشى نظرة قبلان الذي تعرّف على صغيره، وربما لعن قُبلان على ذلك في سرّه. في الأخير قَبِل خلف أن يستعيد معيوف، لكن قلبه لم يكن راضيًا عن ذلك. كان هذا القرار مجرد إبراء ذمة.
وليس أدلّ على ذلك أكثر من مصارحة خَلَف لقُبلان لاحقًا: ”ما حزنت يوم قالوا لي في الأمريكاني إنه مات، ولا فرحت يوم قلت لي إنه حيّ.“
لكن دعونا نتساءل: هل كان خلف سيُغيّر طريقة معاملته لمعيوف لو كان الأخير قد نشأ في كنفه منذ ولادته ولم يبتعد؟ بالتأكيد لا. وأكبر دليل هو هجر قُبلان نفسه لخلف في شبابه لقسوته عليه. ربما كان سيتقبّل معيوف واقعه في النهاية إن كان قد نشأ في مجتمعه. ربما كان ذلك ليحدث لو لم يعرف معنى أن يكون هناك احتمال لواقع أفضل من واقعه!
ماذا عن معيوف؟
لكن مهما بدت الأسباب وجيهة لاستعادة معيوف. هل فكّر أحدهم في معيوف نفسه؟! على مدار السنوات العشر التي شبّ فيها يوسف في الصحراء. هل سُئل ولو مرة واحدة ما الذي يرغب فيه؟ هل بعد بلوغه استُفتي في شأنه؟ هل تُركت له حُريته التي كتبها له خالقه؟ أليس له الحق في تقرير مصيره؟ وماذا لو كان اختياره ضد رغبة أهله. هل حبسه سيحل المشكلة أم يُفاقمها؟
هل أصلح العناد ما كسرته القسوة؟ هل أفلح السجن يومًا في يقنع المسجون بالاستسلام؟ هل نجح التجاهل في تقويم القلوب المكسورة؟! حتمًا لم يحدث، وحتمًا لن يحدث.
لكنها لعنة التعنّت لدى الإنسان. التعنّت الذي يُقامر به المرء وهو يدري مُسبقًا أنه سيخسر كل شيء.
كان خلف يعلم منذ اليوم الأول أنه قد خسر الرهان. لكنه عاند كل شيء، ولم يحاول حتى أن يبذل أي مجهود لاستمالة قلب ابنه، أو لرأب روحه المكسورة. لهذا كان خلف يفعل كل ما في وسعه كالمجنون من أجل ألا يهرب معيوف. عشر سنوات يعيش خلف في خوف من أن يهرب معيوف. لأنه يعرف أنه سيهرب. يعرف أنه لن يبقى معه. حتى وإن هرب معيوف في نهاية المطاف. ربما كان خلف يتمنى لو يهرب معيوف ويريحه من عذابه الذي استمر طيلة العشر سنوات التي عاش فيها ابنه معه. العذاب من الحقيقة التي كان يخشى التصريح بها. معيوف مات في قلب خلف منذ أن تركه في الأمريكاني. لم يرغب في استعادته بل فُرض عليه ذلك. وبالنسبة ليوسف، فليس هناك أقسى على المرء من أن يشعر بأنه شخص غير مرغوب فيه من أقرب الناس إليه. لا يُمكن أن يشعر إنسان بحبٍ إلا إن كان ذلك الحُب نابعًا من القلب.
ينابيع الحُب
على النقيض؛ لم تحتج دماث ولم يحتج صادق إلى بذل أي مجهود لاكتساب حُب يوسف وثقته. فالحب والاهتمام كانا كل ما احتاجه. ربما كانا الوحيدين اللذين من الممكن أن يقنعانه أن يبقى في الصحراء. كان كلاهما يتفهّمانه. بل كانا متقبلان رغبته -وعرضوا المساعدة إن سنحت لهما الظروف- كي يعودا معه من حيث أُتي به. إلى تل السعادة. حتى وإن كان ذلك فقط من أجل الاطمئنان على من هناك أو حتى مساومته بهذه الزيارات من أجل الاستمرار معهم.
مَثَّلت دِماث ليوسف النبع الوحيد الذي يقيه من ظمأ الروح. بينما كان صادق هو رافد معرفته ومعينه للثقة بالنفس والتمثيل الوحيد للجانب الأبوي الذي افتقده يوسف. كان صادق من حماه طويلًا من جفاف الأمل.
يوم ولادة معيوف؛ كانت دِماث الطفلة هي من قَبِلَته وقَبَّلته وابتهجت بقدومه حين وُلد. لم تنفر من مولود لم يُنظف بعد. لمحة من الحنان المنساب من قلب طفلة في أول صفحات الكتاب. ليس هذا فحسب، بل كانت الوحيدة التي افتقدت معيوف وسألت عنه حين عاد والدها بعد أن ترك الرضيع في المستشفى ليُعالج. إن مثل هذا الحنان مجبول في نفس الإنسان. في تركيبه الوراثي. لا يُكتسب أغلبه بقدر ما يُخلق في سمات البشر. رغم أن في وِسع الإنسان أن يتخلّى عنه ويوئده في نفسه في يوم ما.
بعد أن صارت دِماث هي صاحبة يوسف، ونبعه من الحب الأمومي والاهتمام الصادق. باتت لها مكانة عظيمة في قلبه. كانت بمثابة الهواء إلى رئتيه. لهذا لم تكن لحظة فراق دِماث مجرد لحظة فراق عادية. دِماث كانت تُمثل له الأمل الأخير للحياة في هذه الصحراء. لكن الطريقة التي انتُزعت بها منه كانت بالغة القسوة. لأنه لم يُحرَم فقط من دِماث، وإنما شعر بالعجز كونه لا يستطيع مساعدتها. هاله ما رآه من تخلّي والده عن أخته. أفزعته المفاجأة التي أعادت إليه ذكرى لم تغب يومًا عنه. ذكرى بطلها الشرير هو خلف. خلف الذي انتزعه عنوة من عالمه السعيد في الأمريكاني. خلف الذي يتخلّى عن دِماث كأنها إحدى إبِله. تذكّر يوسف القهر الذي شعر به يوم انتُزع من إيڤلين، لكنه على الأقل كان على يقين بأن إيڤلين لم تتخل عنه، كان يعلم أنها لا تستطيع فعل شيء لاسترجاعه بعد أن اختفى في الصحراء، لكن تُرى كيف فكّرت دِماث وهي تشعر بالخيانة والتخلّي من أقرب الناس إليها!
اختفت دِماث وتركت الصحراء خاوية.
هكذا وجد يوسف نفسه وسط عالم خاوٍ بلا روح ولا مشاعر. حياة بلا دِماث ولا صادق. صحراء قاحلة جففت منابع روحه. لم يعد لديه أي معنى للحياة سوى العودة إلى النقطة التي فقد فيها نفسه. عند المستشفى الأمريكاني. مُمنّيًا النفس -كأي سجين- بأنه قادر على العودة لإكمال حياته من اللحظة التي توقّفت عندها، وكأن الزمن لا يجري خارج الصحراء!
لا خروج عن القواعد!
العلاقة بين أفراد أسرة خلف كانت شديدة التعقيد. سجى تكره معيوف، لكن دماث تحبه، بينما سجى ودماث على علاقة وثيقة ببعضهما البعض، وعلى الطرف الآخر يحب ثويني معيوف ويعتبره مثله الأعلى، وبالمقابل لا يمنحه معيوف أي اهتمام كي يشعر بأنه بلا قيمة. وكأنه إسقاط بما يشعر به من خلف الذي يعتبر النياق والبهائم أهم من أولاده.
شخصية زوجة الأب ”أم ثويني“ شخصية مُحبّة لطيفة مُطيعة. لكنها سطحية… مُهمّشة… ربما كان هذا مقصودًا في الرواية، حيث البيئة الصحراوية التي تضع المرأة في إطارٍ محددٍ.
في حياة البدو نظام صارم على الرغم من أنها قد تبدو للبعض حياة عبثية. الصحراء تُمثّل حياة الحرية، لكنها مشروطة بالإذعان إلى الروتين الذي لا يُمكن الخروج عنه. فالطبيعة الصحراوية لا ترحم، والمعيشة فيها تحتاج إلى تقبّل شروطها. كل فرد من أفراد المجتمع له دور وهدف وغاية ومسؤوليات حازمة مُحددة. والمرأة بشكل عام لها مسؤوليات تنحصر في ترتيب المنزل وإعداد الطعام وتجهيز الفتيات للزواج! وهذا في الواقع ليس أمرًا مُشينًا ولا يُقلل من المرأة في مجتمع كهذا. لأن هذه المهمات هي اتفاق ضمني بين أفراد المجتمع وبين كل أسرة. يتحمل الذكر مشاق الرزق في الخارج وتتحمل المرأة مشاق تدوير الحياة في الداخل. لكن المشكلة تبدأ حين يعتبر الذكر المرأة والإناث بشكل عام مجرد ممتلكات شخصية. يُعامِل الإبل بلُطف ويراعي أحاسيسها بينما لا يتعامل بنفس الشكل مع بناته أو زوجاته. الذَكَر هو المتحكم بكل شيء تحت سُلطته. ويُقابِل التمرّد بقسوة بالغة وحزم شديد، كإله مُتخيَّل يخشى دومًا أن تُكتشف حقيقة ضعفه!
ربما يتضح هذا الإطار في ما حدث مع دماث. وليست مشاهد مثل إخفاء خبر الزاوج، أو أسلوب طريقة عرض ابنته للزواج، أو عدم الاهتمام بشخصية الزوج، أو الاحتفال وما حدث فيه أو السفر المُفاجئ هي مجرد مشاهد، بل هي لوحات رمزية تتجلّى من خلالها الحقيقة المُرّة بأن المرأة في هذا المجتمع كائن لا رأي له. قراراتها تُتخذ بعيدًا عنها. لا خوفًا من الاعتراض أو عدم الإذعان -فهذا أمر لا يمكن حدوثه في عُرفهم- بل لعدم أهميتها بالأساس. لم يكن هناك داع للتمهيد لدِماث، فالأمر لن يكون له نتيجة سوى التي قد تقررت! تمامًا مثل النعاج التي تُساق إلى ذبحها. دِماث لم تعرف مُسبقًا مصيرها. أُخبرت فجأة بما تقرر كالمحكوم عليه بالإعدام لحظة تنفيذ الحُكم. استيعاب مُفاجئ وحاد ومؤلم. استيعاب بأنها صارت فجأة مُستباحة.
ربما نشعر بقسوة خلف في لحظات مثل قرار التخلّي عن معيوف، أو قرار تزويج دِماث بكل تفاصيله. لكن في الحقيقة أن خلف كان يُفكر بشكل عمليّ ومنطقي وإن كان بشكل زائد عن الحد. قراراته تُفهم إن وضعناها في الإطار الذي يرسم الحياة وسط الصحراء.
من النقيض إلى النقيض!
كان جوهر معاناة يوسف هو أنه خرج مِن حياة إلى نقيضها. مِن حياة هانئة مريحة مليئة بالحُب والاهتمام، إلى بيئة قاسية وحُب مفقود، وعائلة لا ترغب فيه. مِن السَكَن إلى التِرحال المُستمر. مِن الخُضرة والبستان وشجرة السِدر والبحر والشاطئ، إلى الصحراء والسكون والقحط والمسؤوليات التي لا تنتهي.
وفي رأيي أن الكاتب عبد الهادي الجُميّل قد استعان بهذا التناقض لعرض التباين الذي يمُرّ به الوطن. الحياة المدنية التي اكتسحت كل شيء خارج الصحراء. الحياة المدنية الآتية لانتزاع الوطن المفتوح وإغلاق حدوده. الحياة المدنية التي تأتي بزمن جديد لا يصلح للحياة البدوية القديمة. يُمثّل خَلَف الجيل القديم المُتمسك بكل عادات وتقاليد البدو. لا يريد أن يُصدِّق ما يجري خارج الصحراء. لا يستطيع عقله استيعاب معنى وجود حدود في الصحراء. في كل يوم يتناقص مَن حوله مِن معارف وأهل. ويبقى هو في ثبات ظانًا أنه يُمكنه الصمود أمام التغيير.
انعزل خلف -مع أسرته- حتى سبقه العالم والزمن والحياة. وصار وحيدًا في صحراء تضيق عليه كل يوم.
ليست رحلة بحثٍ عن الهَويّة!
تعجبت من أن بعض القُراء يرى أن رحلة معيوف هي رحلة البحث عن هويته. في رأيي أن هذا أمر خاطئ. معيوف كان يعرف دائمًا هَوْيَّته التي اختارها، ولم يتردّد أو يشُكّ فيها للحظة واحدة طوال السنوات العشر التي مرّت عليه في الصحراء. حياته في العشرة أعوام الأخيرة من عمره كان لها غاية واحدة فقط: العودة إلى هَويَّته التي عرفها في تل السعادة. إلى المستشفى الأمريكاني التي تُمثّل له بيئته التي نُزع منها. معيوف كان رافضًا أن يكون أي شخص سوى چوزيف/ يوسف.
ولهذا فمن المنطقي جدًا أن يختار الطريق الذي سلكه آخر الرواية. هذه نهاية منطقية لشخص كانت حياته كُلّها كانت مُكَرَّسة لشيء واحد. وهذا الشيء اختفى. وبفعل فاعل.
أيضًا رأيت في تعدد الأسماء لنفس الشخص (معيوف / چوزيف / يوسف) دلالة أن الإنسان لا يتغير بتغيّر اسمه. لن يتغيّر المرء بمجرد انتزاعه من بيئة إلى أخرى. الانتماء لا يكون سوى لمكان يشعر فيه المرء بقيمته فيه. هذا فقط ما قد يدفع الإنسان إلى أن يتغيّر.
اللقاء الأخير
لمن قرأ الرواية يُمكنك الضغط على زر إظهار النصّ للاطلاع
اقتباسات
الأماكن التي يحبها الإنسان هي الأبعد مهما قربت، والأماكن التي يكرهها هي الأقرب إليه مهما بعدت.
يموت البدو جوعًا أو عطشًا أو يأسًا في الصحراء. يقضون حياتهم يربّون آمالهم وأحلامهم، ويمشون وراءها منذ الفجر، يرعونها ويحافظون عليها، يتلهّون بها طوال يومهم، ويعودون بها مساءً إلى بيوتهم، ويحصونها ليتأكدوا من سلامتها واكتمال عددها. وقبل نومهم يزدادون يقينًا وأملا بأن أحلامهم الوشيكة لم تتحقق اليوم لأن اللّٰه سيحققها لهم، إن أراد، في اليوم التالي.
ليس الهواء أو الغذاء ما يبقي الإنسان على قيد الحياة، بل الأمل والإيمان والصبر وانتظار الأمنيات التي لا تتحقق.
لا شيء يخفّف من ألم الإنسان أكثر من لومه الآخرين. اللوم أسهل وسائل تعايش الإنسان مع آلامه وهزائمه في الحياة. لهذا يبحث الإنسان عن شخص يلومه، أكثر من بحثه عن شخص يحبّه.
التقييم النهائي
يحاول خَلَف طيلة أحداث الرواية أن يمنع معيوف من الهرب، حتى صار ذلك غايته. وهذا الهوس بمحاولاته المستميتة لمنعه من الهرب مع ربطها مع حزنه الدائم وعدم تناغمه مع معيوف؛ يشي بشيء واحد. قناعة خلف بأنه خسر معيوف. إيمانه المُطلق بأن معيوف سيهرب. بأنه أخرج معيوف من قلبه يوم ارتاح ضميره بموته في الأمريكاني وتركه ليبدأ الحياة بعد أن سلّم الأمانة إلى خالقه.
هذه الحقيقة المُرّة -خسارته أمام معيوف- أصابت خلف في مقتل. أدخلته في دوامة ألم صامت. اكتئاب مُصمت. وكان اللوم المتوقع ممن حوله من جهة ورفض انكساره الشخصي من جهة هو ما أصابه بالعناد الذي ضحّى بسببه بكل شيء بما فيها دماث والإبل. ضحّى بأغلى ما عنده. فخسر كل شيء ولم يكسب رهانه الذي يعي أنه خسره منذ البداية.
هكذا هو الإنسان وهكذا هي الحياة. نعاند أنفسنا رغم أن الحقيقة بازغة في كبد السماء. لكن لدينا من الغرور ما يكفي لنؤمن بأن في إمكاننا أن نُغيّر النفوس.
رواية ”مِخيال معيوف“ رواية أصيلة مُتميزة بلغة راقية للكاتب الكويتي عبد الهادي الجُميل؛ الذي يتركنا بعد نهاية الرواية وسط عشرات التساؤلات التي طرحها بين كل حروفه التي لم يكتبها في نَصِّه!
تقييمي للكتاب 4 نجوم ⭐️⭐️⭐️⭐️
معيار التقييم:
- نجمة = لم يعجبني
- نجمتان = مقبول
- 3 نجوم = أعجبني
- 4 نجوم = أعجبني بشدة
- 5 نجوم = استثنائي
أحمد فؤاد
6 تشرين الأول - أكتوبر 2025