حبكة مُفككة. مُصادفات مُفرِطة. إسهاب مُزعج. أحداث مُبعثرة. ثرثرة بلا انقطاع. يا لها من رواية!
رواية مثيرة في فصلها الأول... فقط!
البداية المشوقة للرواية كانت السبب في حماس القارئ لها في البداية، وفي خيبة أمله بعد صفحات قليلة وإلى صفحة النهاية!
يبدو لي أن باسكال مرسييه لم يكن يرغب في كتابة هذه الرواية. ربما كان هدفه الأساسي هو الكتابة عن أفكاره وتأملاته المُبهرة. إن الأفكار التي كتبها في روايته على لسان أبطال روايته كان الكثير منها مُبهرًا وعميقًا ويستحق التأمل. لكن لعلّ أحدهم نصحه بأن يُقدّم هذه الأفكار في شكل رواية، ربما كي لا يملّ منه القُراء أو ربما لاجتذاب جمهور أكبر لأمور لا تعني كثير من الناس أو للاحتماء وراء الأبطال بسبب الكثير من التجديف في كتابه. أيًا كان ما حدث فقد كانت فكرة سيئة. أو بالأحرى كان التنفيذ سيئًا. أظنني سأدلّل على هذا بتعديل بسيط على المقولة الشهيرة ”ليس في الإمكان أسوأ مما كان!“
إطار معيب لأفكار بليغة
يخفي البناء السيئ للرواية عُمق التأملات البليغة التي تملأ الرواية. فالنص منذ بداية الرواية وحتى صحفة النهاية، له غاية واحدة فقط: التنقيب في النفس البشرية.
قلم باسكال مرسييه كان بمثابة مجهر عملاق يكشف لنا الكثير من خفايا النفس التي لا نراها بالعين المُجردة. أو بالأحرى لا نشعر بها وسط ضجيج الحياة وانشغالنا بها. تلك الاكتشافات التي لم تتوقف حتى النهاية، لا بُد وأنها أصابت جميع القُراء. من شبه المستحيل أن يفلت قارئ من لطمة أو صدمة أو ثورة إنبات بشكل مُفاجئ مع كلمة أطلقها الكاتب بلا أي تمهيد.
النص مليء بالتأملّات العميقة، وما يتبعها تساؤلات أشدّ عُمقًا أكثرها ربما نشأت داخلنا كقُراء!
إنها دعوة مفتوحة للتفكير مليًّا في كل مفاهيمنا عن الحياة، وعن المعنى الحقيقي الذي لا بُد لنا أن نقول بتحديثه كل فترة عن الماضي والحاضر والصداقة والحُب والإيمان والعقيدة والأخلاق، والشجاعة والخيانة والألم، وخيبات الأمل.
يُمكننا أن نطلق على النص أنه بركان ثائر انفجر داخل نفوس أبطاله، أو لعلنا نصف هذا الحدث بأنه كشف حساب للإنسان ربما يجب أن يخضع نفسه له في مرحلة ما من مراحل عمره.
من العيوب الملحوظة في الرواية
أنا ومن بعدي الطوفان
تعجّ الكثير من الروايات بل وربما الكثير من النصوص المختلفة في الفكر الإنساني بفكرة تؤرّقه، ألا وهي التغيير. اللحظة التي تكتشف فيها أنك ترغب في تغيير كل حياتك. تُعدّل أولوياتك وتُنهي علاقاتك بأشخاص ما. تبني عالمك من جديد في مكان آخر على هذه الأرض.
إنها فكرة جذّابة للإنسان. فما أروع أن يتملّص الإنسان من مسؤولياته! لا أظن أن هناك إنسان على مرّ التاريخ البشري لم يراوده هذا الحلم. إنها أجمل أحلام اليقظة، فليس هناك من لا يحلم بأن يتراجع عن قرارات سيئة اتخذها وأثَّرت على مسار حياته، أو أن يختار خيارات أكثر جرأة تُمكنه من تحقيق ما لم يستطع تحقيقه.
نعم يجب على الإنسان أن يتأمّل في حياته وأن يُعدّل ما يمكنه تعديله. لكن يجب أن يضع في الحُسبان ألا تؤثر قراراته على حياة من حوله.
ترتكز الروايات والكتب والنصوص الغربية - وهذه الرواية منها- على الفردانية الشديدة للإنسان. وتدفعه للتفكير بهذا الاتجاه، مُقزِّمة من مسؤولياته تجاه أفراد دائرته التي تشاركه الحياة. شخص متزوج أو لديه أسرة أو متعاقد في العمل أو يأوي أبويه. يصحو يومًا ما ويُقرر أنه غير سعيد في هذا المكان. فيختفي ليبدأ الحياة في مكان آخر بكل أريحية.
لا تُظهر هذه الأفكار الآثار الكارثية المُترتبة على مثل هذه الخطوة. بل تُقلل منها جداً إلى الحد الذي يصل إلى حدّ تجاهلها تمامً. وهذا لا يصنع مُجتمعًا متماسكًا، بل يهدم أي نوع من أنواع الثقة بين أي طرف في أي علاقة إنسانية. كل إنسان مُعرض أن يختفي من حياته فجأة وبدون أي مقدمات: زوجه أو زوجته أو ابنه أو ابنته أو أباه أو أمه أو صديق له. وما الغدر إذًا إن لم تكن هذه الخطوة تُعبّر عنه؟!
عظيم رغم أنفك!
لم يكن البطل الحقيقي للرواية هو موندوس الذي بدأ الرحلة وأنهاها في محاولة لفهم نفسه، بعد أن جاءته لحظة التنوير على حين غفلة. وإنما كان البطل الحقيقي هو أمادو. صاحب الكتاب المثير والغامض. المُتمرّد الثائر المُحب الساخر الكاره المُتألّم البائس الوفيّ. نعم ربما لا يوجد إنسان ليس فيه كل هذه الصفات مجتمعة بمستويات مختلفة. لكن أمادو حقق العلامة الكاملة في كل هذه الصفات جمعاء! إنه الكامل في عيون من حوله. والمثل الأعلى الذي يحاول الجميع تقليده أو على الأقل أن يحسده من فرط أمنياتهم أن يكونوا مكانه!
الكل يحب أمادو دا برادو ويُقدره ويُبجّله حتى من يكرهه! الحسد الذي يكنّه له بعض من حوله لمجرد أنه يستطيع أن يتمرّد على المجتمع وعلى العقيدة وعلى الإيمان. أنه يستطيع أن يجهر بكل سخطه من الله أو من إيمانه بعبثية الخلق بكل شجاعة!
جاء التبجيل لشخص أمادو مُفرطًا إلى درجة مثيرة للحنق. وأصرّ الكاتب على أن يشعر الجميع بهذا التبجيل. الأب والأم والحبيب والزوجة والرهبان والخادم والمرضى والصديق وربما حتى الباعة الجائلين! وكأن لسان حاله يقول ”هيا أيها القارئ لماذا لا تُبجّل أمادو أنت أيضًا؟!“ نعم أتفهم شعور الطالب المُراهق المتمرّد على كل شيء، والواثق في أفكاره ومُغتر بها خاصة مع وضوح فكرته وقوة حُجحه، خاصة إن كان أمام إناس نمطيين في الفكر سواء من أصدقاء أو مُعلمين أو رجال دين. شاب في مقتبل عمره، ثوري، تعميه فورة الشباب. هكذا يكون الشباب في أغلب الوقت، يثير في الجميع روح الثورة والإعجاب حتى ولو جاء بما يُعارضنا. لكن أن يستمر معارضيه خاصة من رجال الدين في الإعجاب به حتى بعدما تعدّى مراحل النضج والكهولة وهو على مثل آرائه.! يصوّر الكاتب أمادو وكأنه إله وبأن الآخرين مفتونون بحبّه، لكن يمنعهم خوفهم من التغيير أو خوفهم من المجتمع من حولهم من أي يتحوّلوا لنُسخ منه!
نقاط إيجابية في الرواية
أعجبني تصوير شخصية أدريانا التي توقف بها الزمن للأحداث التي مرّت بها. أيضًا علاقة موندوس بيوحنا وجلساتهما في المستشفى، كانت في أغلبها رائعة.
أخيرًا أعجبني تصوير مشاعر علاقة أمادو بوالده، والتي فيها بعض الأحاسيس المثيرة للاهتمام والاحترام والتقدير والشفقة على كليهما. وأكُرر: بعضها فقط؛ لأن الكثير منها كان مُبالغة أو لعلنا نقول إنها من إنسان مُعتل نفسيًا بسبب التجربة السيئة مع والده. إنسان لم يستطع أن يتعدّى ألمه وبقي سجينًا له. إنسان يحاول أن يتخلص من الألم الذي يسكن داخله طوال رحلته منذ طفولته وحتى في أواخر أيامه. أمادو ساخط ولا يستطيع التخلص من هذا السخط داخله لهذا هو يشعر بتمرّد على كل ما جعله يعيش حياته بأكملها بهذا الألم.
الاقتباسات
من الخطأ الاعتقاد بأن اللحظات الحاسمة التي يتغيّر فيها مصار حياتنا إلى الأبد، يجب أن تكون مأسويّة بشكل صارخ وقاسٍ.
إن مظهرنا الخارجي لا يبدو للآخرين مثلما يبدو لنا شخصيًا… الخيال يُقوّم صورهم حتى تُلائم أمانينا وآمالنا الشخصية.
أن تُقابل الكذبة بالكذبة هو تمامًا كأن تُقابل السرقة بالسرقة، وانتهاك الحرمات بتدنيس أخرى، والخيانة بالخيانة.
أنا أرتجف لمُجرد التفكير في العُنف الذي لا يقاومُ ويترك الآباء بموجبه آثارًا شبيهة بآثار حروقٍ في نفوس أبنائهم، آثارًا لن تُمحى أبدًا.
هل صحيح أن جُزءًا كبيرًا من أفعالنا يحكمه خوف من الوحدة؟
التقييم النهائي
رواية ”قطار الليل إلى لشبونة“ للكاتب السويسري بيتر بيري (الاسم المُستعار: باسكال مرسييه) رواية مليئة بالثرثرة التي تدفع القارئ إلى التوقف عن القراءة من فرط الملل في بعض مواضعها. ولكن بالمقابل فالرواية تحتوي على الكثير من التأملات العظيمة. إنه كتاب يعبر عن الإنسان وتساؤلاته التي لا تنتهي. سخطه وغضبه تجاه ما يراه عبثيًا في هذه الحياة من ألم وقسوة وظلم. عن الأمل وخيبات الأمل. وعن الحثّ على مراجعة النفس وإعادة تقييم كل شيء من حولنا.
إن كان بطل الرواية ثائرًا مُتمرّدًا على المُسلّمات التي يتخذها الإنسان دون التفكّر فيها. لكنه بالأخير لم يصل إلى إجابات في نهاية رحلته في الحياة. ومَن في الواقع يملك الإجابات أصلًا! ربما هذا هو الاختبار الحقيقي في هذه الحياة. اليقين أمر بالغ الصعوبة. ولك -كإنسان- مُطلق الحرية في الإيمان بما تريد. بل والتمرّد عليه أو العودة إليه في أي لحظة من اللحظات الممنوحة لك على هذه الأرض. فقط احرص على أن يكون إيمانك نابعًا من داخلك، وليس من داخل الآخرين!
- نجمة = لم يعجبني
- نجمتان = مقبول
- 3 نجوم = أعجبني
- 4 نجوم = أعجبني بشدة
- 5 نجوم = استثنائي