عن صداقة تمنح الحياة معنى!
كنت أسير على قدمي عائدًا من محطة القطار مُتجهًا إلى المنزل عندما رأيتهما. وعلى الرغم من أنني كُنت بطيء الخطوة كي أستمتع بالهواء العليل، مُستظِلًا بأوراق الشجر الوارفة التي ترسم ظلها على الشارع، إلا أنني أبطأتُ خطواتي أكثر لتأمّل المشهد الذي وقعت عليه عيناي.
كان يقطع الشارع الضيق في بُطء سلحفاة، مُستعينًا بعصاه الخشبية ومُمسكًا بها -بيديه المُرتعشة- بقوة وكأنه يخشى أن تهرب منه كما هربت سنين عُمره. يُدقق النظر في الأرض في احتراس بنظارته الطبيّة البيضاوية. رفيعًا ضئيل البُنية واهن الجسد. بدا وجهه مُتجهمًا بآثار المجهود الكبير الذي يبذله للتركيز في مُهمّته. يرتدي بنطالًا رماديًا داكنًا وقميصًا أبيضًا تُغطّيه كنزة خفيفة مفتوحة بأزرار على الرغم من حرارة الجو. كان يبدو مُهتمًّا بملابسه المُرتّبة -غير المُجعّدة- والُمختارة بعناية. وبدا لي أنيقًا مقارنة بُعمره وحالته الصحيّة. خمّنت أنه يقارب التسعين عامًا، وإن كُنت لم أعرف إن كانت أناقته تلك ترجع إلى اهتمامه الشخصي بها وإصراره عليها أم أن هناك من يهتم بمظهره عند خروجه من المنزل.
ينظر إلى الطرف الآخر من الشارع. كي يتأكد من مكان السيارة التي تنتظره، يتجه إليها بثبات وبعدد خطوات لا نهائية رغم أنها على بُعد عشرة أمتار فقط!
صاح عليه صاحبه -الذي لم أكن مُنتبهًا إليه- كي يستَحِثَّه ”هيا“. كان مُنهمكًا بإزالة غطاء حماية قماشي من على سيارة كُحلية اللون (بلون الليل) قديمة الطراز وإن كانت نظيفة وُمرتّبة بشكل ملحوظ. سيارة إيطالية من شركة فيات الشهيرة طراز 132. بدا أنه غير مُكترث ببطء صديقه. أكمل إزالة الغطاء ثم جَمَعَه وضَمَّه ثم طواه بعنايه فائقة وهو يضعه في صندوق السيارة الخلفي. أخرج من الصندوق فرشاة طويلة ملونة بألوان الطيف. مسح في خفّة بعض الغبار من على جسم السيارة والزجاج الخلفي والأمامي قبل أن يرميها مرة أخرى في الصندوق ويغلقه بقوة.
يملك جسدًا ضخم البُنية. صدره عريض. وظهره يوحي بأنه كان رياضيًا مُهتمًا ببناء العضلات يومًا ما. يرتدي تيشيرت زيتوني اللون وجينز أزرق. وعلى الرغم من انحناءة ظهره وكتفيه إلا أنه كان سريعًا حيث لم يستغرق ما قام به سوى زمن أقل من عشرين ثانية!
توقف الزمن من حولي وأنا أتأملهما. فتوقفت وأنا أتظاهر بمطالعة شيء ما على هاتفي.
عندما التفَتَ لينادي -مرة أخرى- على صاحبه الذي يعبر الشارع. رأيت وجهه. واندهشت عندما لاحظت تغضّن ملامحه. تفاجأت بأن وجهه يوحي بسنّ أقل من صاحبه بخمس سنوات تقريبًا. لا يُمكن أن يَقِلَّ عن 85 من العُمر. بدا وجهه مُتجهمًا أيضًا لسبب ما، لكن عندما نظر إلى صاحبه. توقّف وهو يراقبه وقد اقترب من السيارة لكنه واجه مشكلة صعود الرصيف العالي. لانت ملامحه ولمعت ابتسامة على وجهه ثم اتجه إليه يساعده على الصعود. انتبهتُ إلى أن خطواته السريعة والثابتة لم تكن بالحيوية التي ظننتها لأول وهلة. بدت آثار العمر على حركاته بشكل ما، حتى وإن كانت بشكل أقل بكثير ممن هم في نفس عمره. مازح ذو الجسم الضخم البنية صاحب المُمسك بعصاه بكلمات لم أسمعها لكنني رأيت أثرها على وجه الأخير. راحت علامات التجهم من وجهه أيضًا وضحك وهو يردّ عليه بخفوت. ترتعش يديه وهو يمسك باب السيارة محاولًا الجلوس فيها، بينما رد صاحب الجسد الضخم في صوت عالٍ وهو يُقهقه ” زي زمان… فاكر“. أغلق الباب ثم خطى بخطوات سريعة إلى الجانب الآخر كي يجلس خلف عجلة القيادة ووجهه مُمتلئ بسعادة رأيت فيها لوهلة حماس مُراهق أو شاب طفا على تجاعيده المُبتسمة.
أتابع السيارة وهي تنطلق أمامي في بُطء، وأنا مُتَجَمّد في مكاني تحت سطوة هذه العلاقة الآسرة بين صديقين بدا أنهما كانا جارين منذ زمن طويل في هذه المنطقة. أراهما بعين الخيال في عشرات المواقف التي مرّت عليهما سوياً. أزمنة انقضت وهما باقيان على العهد؛ مراهقة وشباب وانطلاق وزواج وأبناء وأحفاد. تُرى كم مرة ركبا هذه السيارة سويًا وانطلقا في الشوارع لساعات طويلة. كم مرة ابتَسَما، ضَحِكا، حَزِنا، بَكِيا، أكَلا، شَرِبا معًا.
من بعيد… ألمح السيارة تنعطف إلى اليمين في آخر الشارع وتغيب. تاركة خلفها وهج صداقة ساطعة لا تعرف الأفول.
أحمد فؤاد
8 تشرين الثاني - نوفمبر 2024