random
أخبار ساخنة

مراجعة كتاب ”ما أجمل العيش من دون ثقافة" - ثيسار أنطونيو مولينا

 




من الصعب على من يُتابع المشهد الثقافي اليوم ألا يشعر بالإحباط.

   


صرخات ضد التيّار


المشهد الثقافي المُعاصر يدعو إلى الإحباط. والمشهد الثقافي المقصود ليس مقصورًا على الجانب الأدبي منه فقط، بل يُقصَد بالثقافة شكلها العام بحيث تشمل الوعي والنضج والفكر النقدي لغالبية المجتمع حتى وإن كان الأمر مجرد مبادئ لتلك الآليات التي تُشكّل المجموع الثقافي للفرد.


يؤمن الكاتب الإسباني ثيسار أنطونيو مولينا -مؤلف كتاب ”ما أجمل العيش من دون ثقافة - الثقافة كمُضاد لأخطار الحماقة“- بأن الانحدار الذي أصاب الثقافة مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالرأسمالية المتوحشة التي لا تُسيطر فقط على الثقافة والإبداع وتحويلها إلى سلع مُفرّغة من غاياتها الأدبية والإنسانية والفنّية، وإنما خلقت جمهورًا يُعجَب بهذا النوع الجديد من الثقافة من أجل تسويق الآليات الحديثة التي تدر دخلًا هائلًا على أصحاب الشركات الكُبرى. 


إن هذا يُذكرنا بما ذهب إليه الكاتب الكندي آلان دونو في كتابه الشهير ”نظام التفاهة“ -مراجعة الكتاب-  والذي تحدّث فيه عن مصطلح القمامة الثقافية، وبيّن كيفية خلق ذوقًا رديئَا مُبهرًا يَقبَلَه المُتلقي بعد فرضه عليه باستعراض ضخم وتمويل غير محدود لتجميل الرداءة، وذلك بعد أن يُجبَر الفنانين على التسليم بواقع جديد للأعمال الفنيّة الرديئة والتي لا يلزم أن تكون إبداعية بقدر ما يهم أن تكون مرتبطة بأهداف السوق أو كما يطلق عليه "الفنّ التخريبي المدعوم". وذلك كله من أجل تعظيم هدف واحد وهو "تشكيل الجماهير الذين يُمثلون كتلة الزبائن والداعمين، باعتبار الاثنين لازمين لرأس المال.“ الأمر الذي أدّى إلى سيطرة التافهين (المتواضعين) على جميع مفاصل نموذج الدولة الحديثة.



ربما يشترك هذا الكتاب ”ما أجمل العيش من دون ثقافة“ مع كتاب ”نظام التفاهة“ في موضوعاتهما مثل ”موجات التسطيح، غياب العقل النقدي، الرأسمالية المتوحشة، الفساد، تسليع الحياة العامة، أثر التليفزيون، نُظم التعليم وجودتها، تسليع التعليم. لكن ثيسار أنطونيو مولينا يناقش هذه الموضوعات -بالإضافة إلى موضوعات أكثر- في هذا الكتاب من وجهة نظر اجتماعية، بحيث يوضح الأثر الإجتماعي العنيف الذي يُمكن أن نلمسه في أغلب مناحي الحياة.




التأثير السلبي على المُجتمع


حتمًا سنشعر بصرخات الكاتب في مقالاته المتنوعة في الكتاب؛ وهو يوضح التأثير السلبي الذي خلقته التكنولوجيا في حياة الفرد وفي أسلوب تواصله ليس فقط مع الثقافة والدراسة ولكن حتى في طُرق التواصل مع الآخرين، وهو الأمر الذي نشأ عنه مجتمعات مُخَلخَلة اجتماعيًا، ضعيفة فكريًا.



إن تطور الوضع المجتمعي في ظل التحولات الرقمية الهائلة يلزمه - من وجهة نظر الكاتب- أسلوب جديد للحماية من آثار هذه التحولات وخاصة من آثار وسائل التواصل الاجتماعي. حيث تُعزز التقنيات الرقمية شعورنا بالتقيّد والمُراقبة، وتُحفّز رغباتنا في الاستهلاك، والذي يُؤدي إلى تنامي الحالة الانعزالية، وصعوبة تشكيل وجهة نظر حيال أية قضية. ومن ثم تُذاب هوية المُجتمعات ي قوالب هُلامية مزيد من التضليل والتعمية.


لهذا فقد أسهب الكاتب في فصول كتابه الكثيرة في شرح طُرق حماية عقولنا ومجتمعاتنا من تأثير الرقمنة، وذلك بتوضيح الدور الحقيقي والهام والأصيل للفن والأدب والقراءة والمكتبات والكتب والأيدولوجيات والمُعتقدات. هذا الدور الذي يخلق أفرادًا يُمكنها أن تعرف وتُميّز الحقيقة في الوقت الذي نُحاط فيه بالأخبار الكاذبة وبالشعبوية السياسية وبالعُنصرية بالبغيضة، وبالشعور الوهمي الحرية والسعادة الذي يوفره لنا الإنترنت.

 

   

سلبيات الكتاب

لا شك أن فكرة الكتاب فكرة هامة، ومحتواه غني ومتنوع، لكنني لاحظت تكرارًا في عدة فصول تُناقش فيها نفس الفكرة أو القضية المُثارة، ورُبما بنفس الأمثلة نفس العبارات وهذا الأمر كان مزعجًا. 


هناك إسهاب كبير في الشرح وأمثلة كثيرة لكل فكرة رغم وضوحها. وأتفهّم أن هذا يرجع -إلى حد بعيد- إلى أن الكتاب عبارة عن مقالات مُجمّعة كُتِبَت خلال عامين  كاملين. لكن من المفترض أن يُتدخل المُحرر ويقتص التكرار والإسهاب أو حتى يدمج بعض المقالات إن تشابهت أفكارها، وذلك طالما جُمعت في كتاب واحد.



الكتاب في بعض مواضعه مكتوب بلغة جافة وعسيرة الفهم.


ربما يكون عنوان الكتاب ”ما أجمل العيش من دون ثقافة“ له دور في أن يشعر القارئ بالخداع، كونه يظن أن الكتاب يتحدث عن الثقافة فقط، لكن وعلى الرغم من أن الثقافة هي الرابط الأساسي بين المواضيع، إلا أن الاختلاف بين بعض القضايا -السياسية والفكرية والاجتماعية- كان شديدًا لدرجة التنافر في بعض الأحيان!




   



تحفّظات

 

لدي تحفظ على بعض المعلومات غير الصحيحة والخاطئة عن القراءة الإلكترونية التي أفردها الكاتب، يبدو -وبكل وضوح- أن لديه خلط عظيم بين أجهزة القراءة وبين اللوحيات مثل الآيباد متعددة الاستخدامات. بل أحيانًا يكون لديه ازدواجية في الرأي أو تضارب في أفكاره. فنجده مثلًا يهاجم الكتاب الإلكتروني تارة، وتارة أخرى يدافع عنه!


أيضًا نجد الكاتب يعتبر جهاز كندل فشل فشلاً ذريعًا أمام الكتاب الورقي. لكن لم يوضّح تعريف الفشل والنجاح أو معاييرها في رأيه، بل ولم يوضّح الأساس الذي بنى عليه فرضيته. ثم كيف يكون هناك نجاحًا ساحقًا يحدث في خلال بضع سنوات فقط؟ وهل هذا الفشل الذريع المزعوم أفنى القراءة الإلكترونية في العالم؟ ولماذا بالأساس يرى الأمر صراعًا أو خطرًا بين الوسائل طالمًا الوسيلة تؤدي إلى زيادة الفعل ذاته (القراءة). من شاء القراءة من الكتاب الورق ليستمر في ذلك ومن ناسبه القراءة إلكترونيًا فليفعل. بالأخير فعل القراءة سيزداد وسيوسّع ذلك قاعدة القُرّاء (كما اعترف الكاتب بنفسه لاحقًا في مقال آخر قُرب نهاية الكتاب!".


لكنني رُبما أتفق معه في مشكلة الحقوق والنشر الإلكتروني في المكتبات الإلكترونية، والتي ليست مقصورة على الكُتب فقط وإنما تشمل جميع المنتجات الرقمية كتاب أو فيديو أو موسيقى أو ألعاب، وهي مشكلة هامة بالفعل خاصة في قضية ملكية المحتوى الرقمي. "هل يملك القارئ الكتاب (أو أي منتج رقمي) أم فقط المحتوى؟" وهي قضية عميقة لا تقتصر على العالم الرقمي، بل لها آثار على الكُتب الورقية حتى هذه اللحظة (هل يمتلك القارئ الكتاب فقط أم محتواه مع ذكر المصدر؟).


أيضًا أتفق معه في أن أي جهاز مُتعدد الاستخدام مثل الهاتف أو اللوحيات أو حتى أجهزة القراءة التي يُمكن تحميل تطبيقات مختلفة عليها، جميعها تُشتت القارئ ولا تُقدّم تجربة قراءة مثالية لأنها لا تحل محلّ الكتاب، وإنما تُقدّم تطبيق القراءة ضمن مجموعة كبيرة ومتنوعة من التطبيقات الأخرى. أي أن القراءة مجرد تكون على هذه الأجهزة مُجرد فعل جانبي اختياري بجوار عدة استخدامات أخرى مختلفة، وهذا عكس ما يُقدمه الكتاب الورقي والذي يُجبر القارئ على إنشاء تواصل مباشر ووحيد مع المحتوى المقروء ويعزله عن جميع وسائل التشتّت، وهذا ما تُقدّمه أيضًا أجهزة القراءة الإلكترونية وحيدة الاستخدام (قراءة كُتب فقط) مثل أجهزة كندل.


    

الترجمة

 

ترجم هذا الكتاب إلى العربية الكاتب الفلسطيني حسني مليطات وهو باحث ومُترجم مُختص في أدب المُقارن والدراسات الثقافية، وهو حاصل على درجة الدكتوراة من ”جامعة مدريد المُستقلة“





ترجمة الكتاب ممتازة، ويُمكن للقارئ أن يلمس المجهود العظيم الذي قام به المُترجم لتقديم مثل هذا العمل إلى القارئ العربي. تعاطفت مع المُترجم وقدّرت المجهود الكبير الذي قام به في ترجمة هذا الكتاب. فهذا الكتاب ليس سهلًا على الإطلاق. بعض أساليبه صعبة، وبعض تشبيهاته مُعقدة، وبعض تحليلاته مُغرِقة في المحلية الإسبانية أو في الإقليمية الأوروبية. وهذا يُضاعِف مجهود المُترجِم كي ينقل للقارئ -قدر استطاعته- المفهوم الذي يقصده الكاتب. 

   

 

اقتباسات


إن الكتاب الإلكتروني ليس خطرًا على القرءاة، بل الخطر هو الألعاب الإلكترونية، وبرامج التليفزيون الركيكة وعديمة الفائدة.


لن تُنهي الشاشةُ الكتاب الورقي المطبوع، حتى لو أصبح قطعة أثرية، بل على العكس، فأنا مُتأكد أنها ستُساهم في توسعة القراءة؛ فالأجيال القادمة ستكتسب عادات وأشكالًا جديدة في العلاقة مع النص المكتوب.


لو أراد المرء أن يعيش من دون قراءة، فمن المستحيل عمليًا أن يعزل نفسه اليوم عن العالم، حتى لو أراد الهروب إلى الأماكن البعيدة النائية، حيث لم يصل الإنترنت إلى هناك حتى الآن. 


نحن نعيش في عصر الاستعمار الرقمي.


إن الوصول السهل إلى المعلومة لا يعني الوصول إلى المعرفة.


القراءة مُهددة من التقنيات الجديدة؛ لأن معظم الوسائط التقنية المعروفة، مثل الآيباد، لا تُستخدم لقراءة الكُتب وإنما بهدف القيام بأشياء كثيرة ووظائف متنوعة. 


الكتاب ليس سببًا لوجود هذه الأجهزة، وإنما هو تطبيق واحد من عدد من التطبيقات الأخرى. إن فعل القراءة عبارة عن خلوة للتأمل والتعمّق. 


النجاح أصبح مبنيًا على أعلى نسبية مبيعات أو تسجيلات أو تعاقدات ضخمة، لتصبح القاعدة الشائعة هي ”العمل الذي لا تستطيع بيعه، لا يُعتبر عملًا جيدًا. في حالة عدم وجود مُستهلكين فإن العلامات التجارية تفشل على الرغم من أن منتجاتها أفضل من المنتجات المنافسة.


إن الثقافة باعتبارها قيمة روحية، في طريقها إلى الانقراض، حيث أطاحت بها الصناعة والاستهلاك والشر الذي يُطلق عليها ”ثقافة الإعلام. 


يُعتبر الجهل، والمذهبية والتعصّب والعناد وعدم التسامح، نتائج فعلية لخراب الثقافة والتعليم، وهذا الضرر والتدهور في ضعف منشآت العلم والمعرفة يهدد مستقبل الفرد ومجتمعه والبشرية جمعاء.


 

 

التقييم النهائي

 

كتاب ”ما أجمل العيش من دون ثقافة - الثقافة كمُضاد لأخطار الحماقة“ هو مجموعة من مقالات للكاتب الإسباني ” ثيسار أنطونيو مولينا“ كتبها خلال عامين. تتفاوت فيه قوة المقالات وتتنوّع فيه المواضيع بشكل واضح، يجمع تلك المواضيع خيط الثقافة بمعناها الأشمل حتى وإن كان هذا الجمع واهٍ في بعض المواضع.


في إسبانيا؛ اختلف الُقرّاء في أرائهم عن الكتاب، ولا ألومهم كثيرًا بسبب بعض المواضيع الجدلية في المحتوى. هناك مقالات كرهتها ومقالات أحببتها. كما أن هناك بعض الآراء الخاطئة المَبنيّة على معلومات غير صحيحة. وآراء أخرى اتفقت معها. لكن هذا لا يمنع حقيقة أن الكتاب مهم.


الكتاب جرس يُدوّي بكل عُنف كي يُنبّه الناس إلى ضرورة مراجعة الفرد لتواصله أو تواصل أبنائه مع التكنولوجيا، وإلى لزوم التمسّك بالهويّة واحترام هويّات الآخرين لمقاومة الاستعمار الرقمي الذي يحاصرنا. فهل سيفنى صوت هذا التنبيه في فضاء العالم الرقمي، أم أن صداه سيتردد في نفوس القُرّاء؟ 



تقييمي نجمتان

 

 معيار التقييم:

  • نجمة = لم يعجبني
  • نجمتان = مقبول
  • 3 نجوم = أعجبني
  • 4 نجوم = أعجبني بشدة
  • 5 نجوم = استثنائي
    

أحمد فؤاد
26 كانون الثاني/يناير 2024


google-playkhamsatmostaqltradent