random
أخبار ساخنة

مُراجعة كتاب "نظام التفاهة" - آلان دونو



  

هذا كتاب هام. ينبغي أن يُقرأ، بهدوء.

   


سيطرة المتواضعين 


   

"تُرى لماذا لا يفرض العمل الأكثر إبداعًا نفسه على الأعمال الموجودة في حياتنا المُعاصرة؟"

 

 سؤال يقفز في أذهاننًا كُلّما رأينا عملًا متواضعًا قيمة أو جمالًا في أي مجال من مجالات الحياة. لكنه يصير سؤالًا مُلِحًّا مُزعجًا عندما نجد أن الأعمال الناجحة أو المشهورة يغلب عليه الرداءة. في البداية نتصوّر أن الأمر محض صُدفة، ثم نندهش من تكرار المُصادفات، ثم تتحوّل الدهشة إلى إنكار ثم إلى استنكار قبل أن يُجبَر بعضنا على التسليم بجودة الرديء نظرًا لانتشاره!

 

كتاب "نظام التفاهة" للكاتب الكندي آلان دونو – أستاذ الفلسفة في جامعة كيبيك. يُناقش هذه المُشكلة ويحاول الغوص في عدة مجالات مثل التعليم والسياسة والإعلام ليحاول فهم الأسباب لتهميش منظومات القِيَم، وبروز الأذواق المُنحطّة، وإبعاد الأكفّاء، وخِلوّ الساحة من التحدّيات الحقيقية، مما أدى إلى تسيّد شريحة كاملة من المُتواضعين بسيطي الفِكر. حيث يرى أن انحطاط القواعد التي تحكم العالم الحالي مقصود لخدمة أغراض السوق، تحت شعار الديموقراطية والشعبوية والحرية الفردية. وكُل ذلك أدّى إلى سيطرة التافهين (المتواضعين) على جميع مفاصل نموذج الدولة الحديثة.

 

   

كتابٌ دَسِّم... ومُرهِق


يتعرّض الكتاب للعديد من الأفكار مثل: موجات التسطيح، غياب العقل النقدي، الرأسمالية المتوحشة، الفساد، التلوث، تسليع الحياة العامة، أثر التليفزيون، التخريب لإعادة الإعمار، الاستعمار الاقتصادي، الأوليجارشية، برامج التقشف، نُظم التعليم وجودتها، الجريمة المُنظمة، تسليع الجامعة، الحوكمة.

 

ويكشف لنا عن الحالة المأساوية التي وصلت إليها الحياة العامة في كندا تحديدًا (والحالة العالمية بشكل عام) في العديد من المجالات، وكيفية التخطيط المُسبق لإسباغ التفاهة على كل شيء، وخطورة فرض المعايير الجامدة على العلم، والإشارة إلى كيفية صناعة الرأي العلمي برعاية الشركات الاستهلاكية العملاقة للسيطرة على المُستهلكين بشكل تام.

 

ثم يعرج بنا إلى لعبة الأسهم والاستثمار وكيفية استخدام الخوارزميات في الإيقاع بضحايا مُتجددة، مُشدّدًا على أن الأسواق ليست سوى مسرح واسع للعمليات التي لا يسع المُحاسبين البشريين فهم أي شيء فيها.، وأن تلك الخوارزميات لا تحمل قيمة حقيقية لنا أو لاقتصادنا كأشخاص، فهي فقط تساعد على تحديد قيمة الأسهم من خلال خداع بعضها البعض بشكل مُضطرب غير ثابت، مما يترتّب على هذا الاضطراب وقوع انهيارات مُفاجِئة لأسواق المال قبل أن ترتفع بسرعة صاروخية في موجات متعاقبة لا تستطيع الحواس البشرية الإلمام بها بشكل كامل. ويرى أن البرامج المُصممة لتثقيف الناس حول الاقتصاد هي بدورها تقصد إلى منعنا من إدراك أن النظام نفسه في حالة تامة من الفوضى!

 

ثم يناقش الكاتب عمليات الاستثمار الجشعة في إجراءات إعادة الإعمار في الدول الواقعة في مشكلات اقتصادية أو سياسية أو الخارجة من حروب، والتي وصفها بالمساعدات القاتلة. وألقى الضوء على بعض النقاط الهامة مثل كيفية تصارُع المؤسسات والسياسية المالية الضخمة من أجل الحصول على عقود إعادة إعمار الدول والتي تتكسّب منها بشكل فاحش بالإضافة إلى استغلالها في أمور استخباراتية وتجسسية، وهي صورة حديثة من الاستعمار.

 

أما عن الثقافة والفنّ فقد تحدّث آلان دونو عن القمامة الثقافية وكيفية خلق ذوق رديء يقبله المُتلقي بعد فرضه عليه باستعراض ضخم وتمويل غير محدود لتجميل الرداءة، وذلك بعد أن يجبر الفنانين على التسليم بواقع جديد للأعمال الفنيّة الرديئة والتي لا يلزم أن تكون إبداعية بقدر ما يهم أن تكون مرتبطة بأهداف السوق أو كما يطلق عليه "الفنّ التخريبي المدعوم". وذلك كله من أجل تعظيم هدف واحد وهو "تشكيل الجماهير الذين يُمثلون كتلة الزبائن والداعمين، باعتبار الاثنين لازمين لرأس المال."

 



مُقدّمة مُدهشة

 

حسنًا... هناك جدل كبير على المُقدّمة الطويلة (60 صفحة) والتي كتبتها المُترجِمة الكويتية "د. مشاعل عبد العزيز الهاجري" - أستاذة القانون الخاص بكلية الحقوق في جامعة الكويت. انتقد البعض المُقدّمة وذهبوا إلى أنها كتاب داخل كتاب، بل وعابوا عليها التعمّق في الشرح وفي إفراد أفكارها الخاصة عن موضوع الكتاب بل ومواضيع خارج الكتاب مثل الترجمة.

 

والحقيقة أنني لا أستطيع أن أعترض على ما قد جاءوا به، فالمُترجِمة فعلت ذلك فعلًا، ولكن السؤال الأهم: هل جاءت المُقدّمة خارج سياق موضوع الكتاب؟ الإجابة بكُل تأكيد لا.

 

المُقدِّمة المُدهشة التي أتحفتنا بها "د. مشاعل الهاجري" من أجمل المُقدّمات التي قرأتها في رحلتي القرائية، بل وأزعم بأن المُقدّمة تغني عن قراءة الكتاب! لماذا؟ لأن المُترجِمة أدركت صعوبة أسلوب الكتاب وكاتبه وبُعد الأفكار التي ساقها المؤلف عن إدراك أغلب القُرّاء العرب، ليس لقلّة ثقافتهم، بل لابتعاد الموضوعات والإسقاطات والأمثلة الموجودة بالكتاب والخاصة بالسياسة والتجارة والأكاديميا والثقافة الموجودة في المُجتمع الكندي، بل وحتى من البيئة الثقافية العالمية الدارجة، فقامت المُترجِمة -حسب رؤيتها- بتهيئة القارئ بتقديم الأفكار الموجودة في الكتاب ولكن في إطار مألوف للقارئ العربي بحيث توضّح له الأثر العميق للأفكار المذكورة ولكن على ثقافته العربية وحتى العالمية المتداولة.

 

كان هدف المُترجمِة هو رفع وعي القارئ للوصول إلى مستوى مُعيّن من البُنية الثقافية المُترابطة، تُمكّنه من كُلٍ من الإلمام بما سيعرضه الكاتب في كتابه، ومن الإحاطة الشاملة بالإشكاليات التي عرضتها والتي قد يكتفي بها وتُغنيه عن قراءة الكتاب كاملًا إن واجه صعوبة في الإبحار فيه. كان الهدف الأساسي لديها هو تنبيه القارئ إلى مدى تغلغل الفساد والتفاهة والتسطيح في حياتنا إلى مرحلة صار الابتذال فيها عظيمًا وبات الرُقيّ فيها معيبًا.

 

والحقيقة أنني أعترف بافتناني الكامل بالمُقدّمة، والتي تشي بمُترجِمة لديها وعي تام بدورها كُمترجِمة وكناقلة وكُمثقّفة. تبدو المُقدّمة كوجبة دسمة شهيّة مُتنوّعة الأفكار مكتوبة بلُغة عربية جزلة، يتوقف القارئ بعد إنهاء قراءتها ليتأمّل الكثير من المعاني والأفكار في مجالات الثقافة والترجمة وأساليبها والأفكار السياسية والاجتماعية المُختلفة بالإضافة إلى مُلخص بسيط لما جاء في الكتاب.

 

وأخيرًا... أحترم جُرأة المُترجِمة التي دفعتها إلى كتابة مثل هذه المُقدّمة، وإصرارها على تقديم رأيها بإيمان راسخ، مؤمنة برسالتها الحقيقية -كناقلة مُثقّفة عربيّة- بفتح جسور الثقافة والفائدة بين الحضارات المُختلفة.

 

    




    

الترجمة

 

للحق، فإن أسلوب الكاتب "آلان دونو" كان صعبًا عسيرًا في إدراك المغزى المرمي إليه في كثير من المواضع. ومثل هذا الأسلوب الأكاديمي أو الذي يعتمد على القارئ في إلمامه بالكثير من الإسقاطات المموّهة، من الصعب جدًا ترجمته، لهذا فأنا مُمتن للمُترجِمة "د. مشاعل الهاجري" من أجل الشروحات المُستفيضة في هوامش الكتاب، والتي لولاها لفات عليّ الكثير مما جاء في هذا الكتاب.

 

عن نفسي، استمتعت جدًا في أغلب الهوامش والتي جاءت ثريّة فكريًا ومعرفيًا. أعرف أن هناك من انتقد هذه الاستفاضة كونها تمنعهم من الاسترسال في قراءة النصّ. قد يكون في انتقادهم شيء من الحقيقة، ولكن ما هو الأفضل للقارئ: الاسترسال في القراءة دون فهم المغزى أو الإسقاط؟ أم التوقّف وإدراك الدلالات والمعاني ثم إعادة قراءة الفقرة التي جاء فيها هامش؟

 

أتقدّم بالشُكر إلى المُترجِمة على مجهودها المبذول في ترجمة مثل هذا الكتاب الصعب.

 

   

 

اقتباسات

 

  



إن المهارة الأوليّة التي ينبغي تعليمها للناس ليست مهارة اعتناق الرأي، بل مهارة "لا اعتناقه"

د. مشاعل الهاجري

   

إن كان المظهر الخارجي للغباء لا يشبه التقدّم، المهارة، الأمل، الرغبة الدائمة في التعديل، فإن أحدًا لن يرغب في أن يكون غبيًّا.

  

إن العمل المنزوع الحيويّة الذي يراه العُمال باعتباره "محض آلية لتأمين وجودهم نفسه"، هو الوسيلة التي ضمن فيها رأس المال نموّه. لقد تحوّلت كل حِرفة إلى وظيفة.

  

الغباء الوظيفي يعني غياب القُدرة على التأمّل


    


ما عادت الجامعات اليوم تبيع نتائج أبحاثها، وإنما تبيع علامتها التجارية تحديدًا، تلك التي تختم بها التقارير والتي تمتلك حقوقها التجارية.

  

العمل على جعل الشعب مُتعلّمًا لا علاقة له بالتنوير. لقد كان الأمر يتعلّق بترويض الأميين من الناس باستبعاد خيالهم وعنادهم، ومنذ ذلك الوقت لم يتم استغلال قوة عضلاتهم ومهاراتهم الجسدية فقط، بل وعقولهم أيضًا.

  

الميل نحو الغموض صار سِمَة مميزة للكتابة العلمية المُعاصرة. اللغة الأكاديمية هي الشفرة السرية التي يستخدمها بعض الباحثين كي يبعثوا برسالة مُشّفرة بأنهم أعضاء بالنادي. إنها تضمن أن أحدًا لن يستطيع أن يجزم ما إذا كانت أفكارهم هذه مُبهِرَة، سيئة، أو أنها لا تعدو أن تكون محض كتابات تافهة.

  

في حين أن الثرثرة بين النساء هي أمرٌ محل سُخرية حول العالَم باعتباره دنيئًا وسخيفًا... فإن الثرثرة بين الرجال تُسمّى نظرية أو فكرة أو واقعة.

أندريا دوركن

   

تبدأ المُشكلات عندما نتوقّف عن النظر إلى النقود "كوسيط" للقيمة، فنبدأ في التصرّف وكأنها "تتضمّن" قيمة أو كأنها هي في حدّ ذاتها قيمة.

   

هذا هو ما يدور الأمر حوله، بالنهاية: جعل أفراد الطبقة الوسطى ينسون أنهم لن يكونوا أي شيء سوى بروليتاريين ذوي مال، ليس إلا، وأنه لا سيطرة لهم على المُتغيّرات الاقتصادية والاجتماعية التي تُشكّل مستويات حياتهم.

   

يُمكن اختزال "دين الشركة" في ثلاثة جوانب، الأول: خلق شيء من الشغف الخيالي حول الشركة وعلامتها التجارية المُقدّسة، بما يفصلها عن أيّ واقع اجتماعي أو تاريخي أو سياسي. ثم يستخدم أشكالًا حقيقية من التشارك لتوحيد سِرب المؤمنين به، وهو سِرب لا يشمل الموظفين فقط، وإنما الموردين والمُستهلكين أيضًأ، وذلك في شكل فعاليات أو احتفالات. وهكذا يتحوّل المُنتج فلا يعود مُنتجًا وفق ما هو عليه حقًا (هاتف-كنزة-منصة ألعاب فيديو) فما إن توضع عليه العلامة التجارية، حتى يًصبح المُنتج مُعبأ بالمشاعر.

     

   





 

 

التقييم النهائي

 

كتاب نظام التفاهة من الكُتب الدسمة المُرهقة في قراءتها، ليس فقط لاحتوائه على العديد من الأفكار المتنوعة، بل للإسهاب في التفاصيل الكثيرة للقضايا المُعاصرة -والتي قد لا تحدث حاليًا في مجتمعنا بشكل مُتطابق- ومحاولة ربطها ببعض من أجل إظهار وتوضيح الصورة الكاملة في عقل القارئ مما يُمكّنه من إعادة النظر في الحياة التي تدور من حوله أو بالأحرى التي يدور هو فيها. يأمل الكاتب آلان دونو أن ينجح في سعيه فيمتلك القارئ رؤية شاملة مُتعمّقة لكُل رابط يربطه في الحياة من تعليم وصحة وسياسة واجتماع وفنّ وثقافة، فينتبه إلى خيط يكاد لا يُرى يربط بينهم جميعًا- خيط مُتخفّ بمهارة وسط بريق الأضواء وصخب الدعايات وضجيج السخف. خيط اسمه التفاهة!

 


تقييمي 4 نجوم

 

 معيار التقييم:

  • نجمة = لم يعجبني
  • نجمتان = مقبول
  • 3 نجوم = أعجبني
  • 4 نجوم = أعجبني بشدة
  • 5 نجوم = استثنائي
    

أحمد فؤاد
27 كانون الأول/ديسمبر 2021



google-playkhamsatmostaqltradent