random
أخبار ساخنة

مسابقة أبجد يوليو 2023 - مراجعة رواية "مَنّا... قيامة شتات الصحراء" - الصدّيق حاج أحمد - المركز الثاني



المراجعة الفائزة بالمركز الثاني - مسابقة أبجد وعالم موازٍ - رواية "مَنّا - قيامة شتات الصحراء" - حنان السيد


حلم الوطن


ليس أشد على المرء من مغادرة مضارب طفولته قهرًا، ما زال حلم إقامة وطن للأزواد يتأرجح، أحلام التنفس بالوطن الموعود، الوطن المفقود، الضائع، المؤجل. ليبقي سؤالًا حاضرًا، هل تمنح الجزائر ظلال الوطن وأحلامه للأزواد يومًا ما؟


أثناء مُطالعتي للرواية استنبطت من الحبكة ثلاثة أبطال جوهريين هم؛ الشتات في ثوب الترحال، الجفاف، والمكان بشقيهِ (الوطن والغربة).  قد يكون البطلٌ المؤذي في روايتنا هو عام مَنّا، حتى أنه وصم بألقاب أخرى على مدار رحلة الرواية مثل؛ عام مَنّا العاثر، جحيم مَنّا، محرقة الصحراء، قيامة الجفاف، عام الضياع، عام الجدب، عام عزرائيل، محرقة جفاف الصحراء، قيامة عام النشف، عام النحس، طامة الجفاف الكبرى، هجرة شتات الجفاف، هزال مَنّا ومخالب مجاعته المنكرة.  أثر ذلك ازدادت وتشعبت الأسئلة أمامي منها؛ هل حقًا أهل الأزواد شتتهم حالة جفاف مَنّا، أم حالة جفاف من نوع آخر وهي سلب وطنهم منذ أمد؟  في منتصف الرواية، الأزواد رغم ارتواء أجسادهم في مراكز الإغاثة أو حتى بنعيم ليبيا، إلا أن قلوبهم وأرواحهم عطشي بعدم إقامة وطنهم المستقل، بل ظلت قلوبهم تتشقق جفافًا يوم بعد يوم؛ تلتمس الارتواء من أرض مالي. لا شيء يطرب الأزوادي كحكاية الوطن وحدوث الانفصال عن باماكو لأهل مالي، وانصرام صحراء أغادز وما جاورها عن نيامي لأهل النيجر.


إذن، هل يُمكن تلهية الجوع وتعمية عضاته الموجعة أم أنه أمر مستحيل؟ في عام 1972 طل الجفاف خفيفًا بصحراء شمال مالي، لكن أهوال القيامة الحقيقية ضربتهم في 1973. أرواح فنت، أجيال هُلكت، قبائل تيلمسي همت بالهروب، تحول توارق إيدنان، شمنماس وغيرها نحو معابر الشمال قاصدي طريق الحياة. قبائل تقتفي أثر قبائل، ولا شيء مرئيًا أمامهم غير غبار الراحلين.


انقسام وشتات


انقسمت القبائل المهاجرة إلى قبائل هاجرت نحو موريتانيا والنيجر، قبائل نحو الجزائر، قبائل أخرى صوب ليبيا، وقبائل اتجاه بلاد الحجاز. لم يفارق المهاجرون طوال طريقهم روائح موتي الإنسان وجيف الحيوان، مشاهد هياكل وعظام المواشي.  شخصيات الرواية باتوا هاربين من الموت، متمثلين في عائلة غسمان الإدناني، هم هنا أمام معادلة الحياة أم الموت، وبالطبع لا خيار آخر سوي الفرار من الموت نحو طوق النجاة الشمالي، حيث مراكز الإغاثة بالنقاط الحدودية من جنوب الجزائر. تقول الأم تين البركة ناعية والدتها لوله " مجيء الموت بالتقسيط، أهون من هجومه المباغت.   -بداية الرحلة والشتات الشتات محرك القصة، هو بطل ليس بهين، يبدو مثل شخص قوى قادر على التلاعب بعقل من يستحوذ عليه، لا يترك ضحيته إلا عندما يتأكد أنه بات تائهًا هائمًا على وجهه. لكن رغم هذه الحالة التي تملكت الأزواد نراهم طوال خط الرواية يمتلكون من الصبر حد تحمل آلام التعذيب والهوان.


ربما الأحلام هي الحافز بإمداد المرء بالقوة، فأحلام شبح الوطن لم ينقطع عنه يطاردهم في كل مكان.  شُعلة الشتات تعود لدخول الفرنسيين أرض الأزواد عام 1893، قامت الحروب على مدار الأعوام إلى أن تم تشكيل جبهة شعبية عام 1963 لتحرير الأزواد. واجهتهم الحكومة المالية بالتعذيب؛ سممت آبارهم، أتلفت المواشي. خيبات وانكسارات متعاقبة، طُمست خلالها الهوية التارقية، ثم تاليًا صفعتهم الأقدار بالجفاف؛ لينطلقوا تائهين في أرض الله شتاتًا.


الأماكن


المكان هنا كالعملة ذات الوجهين؛ وطن وغربة. إقامة الوطن حلم يراوغ صاحبه، أمل لا يترك نفسه حتى مماته. بين التعلق بالوطن قلبًا ونفسًا، المتمثل في النزوع نحو فكرة الوطن المستقل المنفصل عن مالي والنيجر، وبين التكبيل في أماكن أخرى شتاتًا، المتمثلة في هرولة الأزواد لنداء معمر القذافي وقبولهم التجنيد. على مدار الرواية، ذُكرت أكثر من ثماني محطات كبلت بطلنا بادي وأصدقائه بها. بداية من مركز إغاثة برج باجي مختار المقام على حدود الجزائر. في هذه المحطة تعجبت، كيف لحياة مختلفة أن تكون قادرة على إنزال الوباء بينهم؟ الموت لم يعد يفرق بين شاب وطفل أو مسن، اختبار الوباء الذي تفشى بينهم ومن ثم اختبار طرد من ليس معه بطاقة الهوية أو على الأقل شهادة ميلاد، فباتت الحياة في مركز الإغاثة على كف عفريت.  -حالة التيه التي غلفتها البشارة بغزارة فرص العمل بليبيا. رأيت العمل في ليبيا رغم مشقته المحطة الذهبية للأزواد، العمل في مخابز كامبو الطيورى وحياة الرعي بسهل الشويرف كانا بمثابة طوق نجاة. في هذه المحطة لاحت أمامهم أيضًا بطاقات بناء بواسطة الأشقاء الموريتانيين المرابطين بليبيا؛ بطاقات جالبة للحظ، فحاملها له حق العمل في ليبيا والدخول إليها دون تأشيرة أو متابعة أمنية خلال تواجده على أراضيها.


لكن رغم هذه المحطة الذهبية، ظهر أمامي سؤال آخر، هل ترتبط حالة السأم بحالة الاستقرار عند أهل الصحراء؟  واحد من أهم الانطباعات عن الأزواد أنهم رحالة يسأمون الاستقرار في مكان واحد رغم فائض العيش والأجرة المقبولة، لذلك وفي هذه المحطة أدركت كم أن يتامى الوطن لن ينعموا في أرض أخرى مهما كان.


أحلام مؤجلة


أحلام مؤجلة من معسكر بنى وليد إلى مطار دمشق الدولي. هل كانت تلك المحطة استغلالًا ما؟ ربما. فهذه المحطة يسميها بادي سمكة أبريل القذافي وأنا اسميها كذبة أبريل. خطاب القذافي الواعد للأزواد -بتاريخ 16 أكتوبر 1980 بمدينة أوباري جنوب ليبيا- بإقامة دولة أزودية. محطة انطلق فيها الأزواد جريًا خلف سراب الوطن الموعود، لكن بعد عامين في المعسكرات تمردوا عن التدريبات، إلى أن جاء وفد ليبي ووضعهم أمام ثلاثة اختيارات. الرجوع للجزائر أو البقاء في ليبيا، أو الذهاب إلى جنوب لبنان ونصرة فلسطين، وصاحب الخيار الأخير ستكون مكافأته ضخ الدعم لقيام دولة الأزواد، لينتهي مع هذه الاختيارات الثلاثة معسكر بنى وليد.


كيف ساقتهم الأقدار إلى معتقل أنصار؟ رغم صعوبة هذه المحطة وعذابها، إلا أنها أهم محطة وأقوى اختبار. اختار بادي ورفاقه الاختيار الثالث وهو معسكر عين صاحب نواحي ريف دمشق، حيث القيادة العامة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. شخصياتنا مازالت تسعى وراء الحلم، مازالت صابرة، ربما تحت مبدأ سندعم الآخرين كي يتم دعمنا يومًا ما في المستقبل.  في 4 مايو 1982 شنت عليهم القوات الإسرائيلية غارات جوية، ومن ثم تم اعتقالهم في جنوب حيفا. في 6 يونيو 1982 احتلت القوات الإسرائيلية جنوب لبنان، ثم فتح معتقل أنصار بتاريخ 14 يوليو 1982، ليتم نقل الأسري إلى هناك حيث يوميات التعذيب بالمعتقل؛ الصلب لمدة 24 ساعة تحت الشمس الحارقة، منع الشرب والحرمان من الأكل، حبس التبول، كهربة الأجساد بالأسلاك الكهربائية، والجلد بالحبال النحاسية، ليفقد الكثير من المعتقلين الذاكرة ومنهم من أصيب بحالة من الصرع نتيجة الضرب على الرؤوس. قضوا 16 شهرًا في أنصار، البعض كان يتسلى بنقش آماله الطويلة بالحجر، إلى أن تم الاتفاق بين المنظمات الفلسطينية ودولة اليهود بوساطة نمساوية وفرنسية، بإطلاق جميع المعتقلين العرب البالغ عددهم 4700 معتقل مقابل 7 جنود إسرائيليين. دموع الفراق تبلل أرضية المعتقل الحمراء بعد تقاسم شهور المعاناة. وهنا طار الفريق البوكاري نحو مطار طرابلس الدولي بتاريخ 23 نوفمبر 1983.  _اكذوبة معلبة للوطن في معسكر 2 مارس في هذه المحطة كنت أتمنى لو الأزودين فضلوا العودة للعمل في ليبيا أو يعودوا لمالي ويقيموا ثورتهم، لكن ربما هذا هو مغزى الاختبار، أن يطول بهم الوقت كي يستوعبوا كم كانت الوعود كذبة. هنا مازال الأزواد مشتتين الفكر، سراب الوطن الوردي لا يزال لامعًا في أفق أحلامهم، ليقرروا البقاء في معسكرات ليبيا.


هل صفة الأسير أصبحت مطبوعة على بادي كما قال غلواته؟ استمرار انسياق الأزواد وراء الوعود جعلتهم ينخرطون في صراع لن يعودوا منه بأي مكسب، إنها حرب شريط اوزو بتشاد عام 1987. أمران فظيعان وقعا في تلك الحرب أولها الزج بالتلاميذ الليبيين فيها بدعوى إنهم ذاهبون لحملات التشجير ثانيا دفع أهل البوكار إليها بإغواء مكافأة وطن الأزواد. في فجر فبراير 1987 استيقظوا على دوي قنبلة من التشاديين، حاولوا الفرار لكنهم وقعوا أسرى مع 100 أسير آخر. تم اعتقالهم في سجن السلاسل حيث الفئران تنهش الجروح النازفة، لا شيء أدمي هناك. ومن سجن السلاسل لسجن جوندماريا المشهور بقلة نظافته، ليصاب الأسري هناك بالملاريا. واحدة من أعظم الحوارات في الرواية هو حوار المحقق العراقي مع بادي، عندما سأله "هل تعتقد أن مشاركتك في هذه الحرب بالوكالة ستوصلك إلى وعد القذافي لكم بالوطن في الازواد كما تشتهون؟ على الأقل الليبيون معذورون لأنهم يناورون من أجل أخذ شريط اوزو، وإن فازوا به ففيه مكاسب كثيرة لهم وأنت ماذا تفوز هنا؟ " هنا بادي لم ينطق سوى بـ ربما، وهذا يعكس شخصيته بسيطة الفكر، ربما لو كان أتى رد فصيح ذكي منه لكنا لم نستسغ انخراطه في المعسكرات من البداية.


أين الوطن؟


أين الوطن وكيف السبيل إليه؟ أنا من هؤلاء الذين يؤمنون بأن صاحب الحلم عليه أن يتكئ على نفسه وبنفسه في تحقيق ما يريد، لا يلهث وراء الوعود من الآخرين مهما كانت نيتها، فأهم شيء هو لملمة شتات النفس والمواجهة. لقد صدق أحد الأزواد المشاكسين عندما قال لبادي " الطماع لا يقتله إلا الكذاب". مطلع 1990، مل الأزواد الانتظار الكاذب الممدد، كان هناك تحرك استراتيجي خفي في المعسكر يحضر لغزوة أزودية. خرجت قافلة من المعسكر نحو الازواد بتاريخ 29 جوان، اتجهوا نحو جبل تايكارين حيث ثوار جاءوا من غاو، كيدال وليبيا، ليصبحوا 60 ثائر تارقيًا. هنا انتقلت الثورة من مرحلة الوهم إلى الواقع، فتم نصب كمين بالطريق بين تجريرت وتيدغمين. دخل بادي ورفاقه من البوابة الرئيسية لمقر الكومندان، أفرجوا عن ثوار التوارق المحبوسين. منذ تلك اللحظة دخل الأزواد في دوامة من الحروب المجهولة، تخللتها هدنات واتفاقات سلام بدول الجوار، لكن أيضًا صاحبتها تناسل العديد من الجماعات الاثنية والدينية المسلحة، لتظل منطقة الأزواد بؤرة ساخنة بالمحيط الإقليمى حتى الآن.  _زينت مشاهد الرواية بخلفيتين؛ خلفية الطعام وحالة العشق. رغم الجفاف إلا أن الرواية تمتعت في كل بقعة ومكان بطعام معين، لا ننسي طقوس الشاي المقدسة عند الأزواد أينما ارتحلوا. الأطعمة معلبة في برج باجي مختار، أرز مطبوخ دون لحم في ليبيا، فواكه حلوة ووجبات دسمة في معسكر عين صاحب، بيضة مسلوقة وكسرة خبز في معتقل أنصار لكن في أسوأ الأحوال تكون معلبات منتهية الصلاحية، الأرز وفطائر السفنز الليبي في وادي الدوم، الأرز فقط في معتقل السلاسل.


حالة العشق


حالة كفيلة بإسعاد وحشة العاشق، تؤنسه، ترفق به. حالة عشق بادي لهكتا ابنة خاله والتي تعددت ألقابها في الرواية؛ يناجيها تارة باسم آسوف، وتارة كتكوت، ثم الحبوبة الشمنماسية، وتارات هكوت، والعنقود. لقد فرقتهما مصائر الأيام وجمعتهما من جديد، بنيا في قلبيهما قصورًا، وشيدا أحلامًا على جغرافيا الأزواد.

 

السرد والحوار


أتت الرواية في شكل حكى مستمر على لسان عدة شخصيات تاريقية؛ بداية من غسمان ومن ثم ابنه بادي وأصدقائه الثلاث. في الرواية لن نجد الحوار المتعارف عليه بين الشخصيات، لكن سنجد فيض أحداث من الذاكرة. وضح الكاتب في بداية الرواية أننا سنري تحولات في الكلمات والحروف. في عجم الحروف المهملة من الحاء إلى الخاء أو من العين إلى الغين في نطق التوارق أو أتي لاستطار العُجمة بلسانهم، في إبدال الثاء سينا.


عامل الزمن


عامل الزمن في الرواية  أحداث الرواية لم ترو بشكل متتابع زمنيًا بل بقفزات زمنية غير مرتبة -بين الماضي والحاضر- تستلزم انتباهًا كاملاً أثناء القراءة، فالرواية تبدأ بعام منا 1973، ثم تعود للماضي حيث ثورة كيدال عام 1963، ثم تقفز لمعتقل انصار1982، ثم تعود لبرج باجي مختار 1977، وهكذا. أرجعت هذا السبب لأن شخصياتنا بطبيعة حال حكى أحداث الماضي أن تتشعب عودة للوراء أو قفزًا للأمام على حسب حالة الشخصية.



خاتمة الرواية


أتت النهاية مفتوحة بما تشي باستمرار الحلم، الأمل، المقاتلة واستمرار السعي بإقامة وطن للأزواد. ما زال بادي يري في أحلامه علم الأزواد يرفرف عاليًا على جبال كيدال وبوادى تيلمسي ووديانها وصحراء منكا، لكنه شاهد كل ذلك محمولًا على جمل يتمايل به في غمرة ريح قوية تعصف بالمكان. ما زال وطن الأزواد يتأرجح على سنام إبله لما يعيش مساراته المجهولة.  -اعتمدت في كتابة التلخيص لكلمة " التوارق"  كما ذكرها الكاتب بدلًا من الطوارق.


بقلم: حنان السيد



بالتعاون مع الموزع الرسمي في الإمارات العربية المتحدة - لأجهزة BOOX للقراءة الإلكترونية .


google-playkhamsatmostaqltradent