المراجعة الفائزة بالمركز الثالث - مسابقة أبجد وعالم موازٍ - رواية "مَنّا - قيامة شتات الصحراء" - حليمة بلعربي
رحلة في عالم الصحراء
يقول ألبرتو مانغويل في كتابه المكتبة في الليل : " كل قارئ يُوجد كي يضمن لكِتاب معين قدرا متواضعا من الخلود . القراءة بهذا المفهوم هي طقس انبعاث." تماما مثلما تبعث الكتابة الروح في القصص و الأساطير و الأحداث التاريخية ، يُولَد الكِتاب مع كل قارئٍ من جديد . قراءتي لمَنّا كانت أشبه برحلة زمينة في أرض ألِفت جغرافيّتها ووقعت في حب تفاصيلها. كانت تجربة تتخطى مستويات قراءة الرواية المتعارف عليها إلى غوصٍ في عالم الصحراء الغني جغرافيًّا ، تاريخيًّا و أنثروبولوجيا.
أبطال بوجه واحد
رواية "مَنَّا" جاءت باسم تارقي يعني بالعربية "الجفاف" رواية تاريخية ،اختار كاتبها الأستاذ صديق حاج أحمد الزيواني مسارا متوازِنَ الأحداث ، بدأه بنُزوح البطل و عائلته و سكان القرى المجاورة من شعب الأزواد عن الأرض التي ألِفوها نحو المجهول بسبب جفافٍ و جذبٍ ضرب الأرض و السماء ، تلَقفتهم بعدها مصاعب الحياة لترميهم في حِجر حُلمٍ أصبح مع الوقت هاجسا لن يتخطّوْه أبدا.
تركتْ شخصيات الرواية بصمات واضحة و مهمة ، ماكان للقصة أن تنساب لولاها ، لكنها كانت بصماتًا ضحلة . لم تظهر يظهر عمق شخصية البطل و لا ملامحه النفسية ، كذاك الأمر بالنسبة للشخصيات الثانوية . أَوّلت ذلك لرغبة الكاتب في ابراز بطولة شعب الأزواد كله ، و عدم إلحاق صفة البطل بفرد واحد . كما أن لهذا الشعب خصوصيته (التي يتقاسمها أهل الصحراء قاطبة) وهو انتماؤهم لغلاف نفسي واحد.
رواية توثق للتاريخ
نسج الكاتب قصته حول قضية جفاف 1973 الذي ضرب شمال المالي لتتجلى لنا الصورة كاملة فندرك أصل اشتعال فتيل ثورة الأزواد. حيث ربط خيوط هذا الحدث التاريخي /الجغرافي بالمعترك السياسي الذي كان يدور آنذاك في مناطق كثيرة من العالم ، شاءت الأقدار أن يُزج بشباب الأزواد اللاجئين فيه مُقابل تحقيق الحُلم/الهاجس. يُحسب للكاتب أنه بروايته هذه كان سبّاقا لتوثيق معاناة هذا الشعب الذي ظلمته الطبيعة قبل أن يكذب عليه القذافي و تُحاربه المالي و فرنسا. وجبة معرفية يصف الروائي الاسباني ألبرتو فاثكث فيكيروا شعب الطوارق بأنهم " الشعب الأكثر نُبلا و أسطورية فوق الكوكب " ، شعب تماهى مع البيئة التي يعيش فيها و مع الانسان الذي يقاسمه هذه البيئة .
شتات الصحراء في الأدب العربي
اشتهرت في الأدب العربي أعمال الروائي ابراهيم الكوني التي جعلت الانسان التارقي موضوعها المحوري ، لكن الزيواني في "منّا" جمع شتات الصحراء و أبرز اشتراك كل الاعراق في المصير نفسه عندما تجور الطبيعة و الغريب معا عليهم. شعب الأزواد قسمته الاثنولوجيا بين تارقي و عربي ، لكن جمعهم الوطن الذي يتأرجح على سنام جمل ... تكرر ذكر مشهد الجمل هذا في اكثر من موضع في الرواية ككناية على ضبابية مستقبل شعب الأزواد ، و أظنه الرمز الاساسي الذي أراد الكاتب ايصاله ما وراء النص. خصوصا أن المشهد نفسه ظهر في الفيديو التصويري لأغنية "تينيري تقل / ماذا حدث للتينيري" لفرقة تيناريوان : جمل يتأرجح على سنامه كل ما يرمز لشعب الأزواد. و هذا يدل على تأصُّل هذا الرمز في الذاكرة الأزوادية.
الرواية وجبة معرفية مليئة بالرموز لتليق بأسطورية الصحراء و شعبها لن أذكرها كلها لكثرتها . أذكر منها تربيعة الشاي في الفصل الأول التي ذكرتني بلوحة دافينشي "العشاء الأخير " ، وجبة أخيرة يتقاسمها بطل القصة وأسرته قبل الهجرة إلى المجهول. تكرر مشهد التربيعة في مرات عديدة ليعبر عن طقس روحي ، متنفس للانسان الصحراوي في بيئة قاسية و صعبة التوقع. ظهر أيضا شاش البوكار الذي تقاسمه الاصدقاء الازواديين (عرب و طوارق) في المعتقل الاسرائيلي كرمز عن اشتراكهم في الهوية و المصير . في الأخير حلم بادي و عودة الجمل الذي يحمل الوطن على سنامه ، والذي جسد نهاية مفتوحة لكلٍّ من العمل الأدبي "منا" و لقضية الأزواد.
لغة تُقصي لَفيفًا من القراء
قبل الحديث عن لغة الرواية وجب التنويه أن الكاتب الأستاذ صديق حاج أحمد الزيواني أستاذ لسانيات في جامعة أدرار الجزائرية ، و رئيس مخبرالبحث في سرديات الفضاء الصحراوي . اشتغاله في مجال البحث الأكاديمي يُخول له اللعب بتقنيات السرد على أعلى مستوى .فقد اختار لسرد "مَنّا" لغة عربية قديمة ، التمستُ فيها -حسب معلوماتي القليلة جدا- منهج المدرسة الكوفية في تطبيق قواعد النحو على لغة السرد ، اضافة إلى الكلمات التي استعارها من لغة الطوارق "التماهق" و من اللهجة للحسانية و كلمات أخرى " مبلولة في حوض الفرنسية " كما قال . كل هذا صعّب عملية فهم النص على القارئ العربي ، ولو إني التمست له عذرا مرة أخرى و هو أن منطقة الصحراء اشتهرت بالزوايا ، و هذه الأخيرة تعتمد على أمهات الكتب القديمة في تعليم الطلاب اللغة العربية . و بالتالي العربية التي يألفها أهل الصحراء هي بلا شك نفس العربية التي كتب بها الزيواني "مَنّا" .
ولادة معاني جديدة
تعيش القصة فينا كقُراء أكثر من عيشها في الكتب ، رغم أن دفتي الكتاب تجمعها و تضمن لها الخلود-نوعا ما- ، لكن القارئ يبث فيها الحياة ، يضمن لها حيوات تتجدد بتقدمه في السن و تنوع التجارب التي يمر بها. لهذا السبب اهتم ألبرتو مانغويل بفعل قراءة الكُتب أكثر من كتابتها. جعلتني مَنّا استكشف بعدا آخرا للصحراء التي زرتها ، و التي قرأت عنها في كتب الكوني و فيكيروا . تعرفت أكثر على شعب الصحراء و على رابطة الانسان بدوابّه و أرضه ... علمتني أن ضرب الجذور في رمال الصحراء صعب ، بل مستحيل في بعض الأحيان. كُتِب على شعب الأزواد أن يعيشوا في أرضهم بلا جذور ، حتى إشعار آخر.
بقلم: حليمة بلعربي
بالتعاون مع الموزع الرسمي في الإمارات العربية المتحدة - لأجهزة BOOX للقراءة الإلكترونية .