حتى من السعادة!
نتمنّى دائمًا أن يعود بنا الزمن كي نُغيّر بعضًا من اختياراتنا من أجل أن نكون أكثر سعادة. نعتقد أننا إن استطعنا القيام باختيارات مُختلفة في ماضينا عند لحظات مفصلية منها، سيجعلنا هذا بمأمن من الشعور بالندم. وهكذا نفترض بسذاجة أن هناك اختيارات مُحدّدة ستحمل لنا سعادة خالصة. الحقيقة أن هذا مجرد وهم!
مهما كان الخيار الذي سنختاره، سنقبل غالبًا به، وسيدفعنا قبولنا إلى الرضا ولو بشكل مؤقت يُعبّر عن خوفنا من اتخاذ قرارات بديلة. ستُبرّر لنا عقولنا كل اختياراتنا وجميع أخطائنا، وهكذا سنتكيّف معها في النهاية.
لكننا نغفل أو نتغافل عن أن الندم سيظل رفيقنا حتى وإن كانت اختياراتنا صحيحة، ومهما حملت لنا أكبر قدر من السعادة. لأننا في الواقع نَملّ من كُل شيء... حتى من السعادة!
وعندما يتنامى داخلنا الشعور بالسأم، ويتحوّل كل شيء في حياتنا إلى أمر نمطي، حينها تدفعنا رغبة حثيثة في تفقّد ما ينقصنا. نُفتّش في الماضي والحاضر عن فُرصٍ ضائعة كان من المُمكن أن تكون أكثر إثارة! تُطاردنا هذه الرغبة بهوس حتى تمحق معها أي سعادة أو رضا في نفوسنا.
لكن السؤال الأهمّ هل توجد لحظات مفصلية في الأساس؟ في رأيي أن هذا محض خداع نفسي.
الحياة لوحة شديدة التعقيد مليئة بالتفاصيل الدقيقة المُرتبطة ببعضها البعض. نحن فقط ننظر إلى الجزء الذي يخصنا مُفترضين ثبات كُل شيء آخر وأننا الأبطال الوحيدون في الصورة. إن تغيّر أي خيار من خياراتنا السابقة؛ فحتمًا سيقابله تغييرات من خيارات لمن يشاركوننا في الحياة، وهكذا فما سنقوم بتغييره لن يضمن لنا بشكل حتمي أن يؤدي إلى النجاح الذي نطمح إليه، سيبقى مجرد احتمال واحد وسط آلاف الاحتمالات المتوقعة.
ماذا يعني أن تكون أنت؟
"ماذا يعني أن تكون أنت؟"
الشخصيات
شخصيات القصة قليلة جدًا، وبعيدًا عن جيسون ودانيلا فبقية الشخصيات ثانوية. ما عدا شخصية سأتحدث عنها في نصّ مَخفيّ بالأسفل كي لا أحرق الأحداث.
شخصية جيسون
تأثرت بشخصية جيسون جدًا، ولم أحتج أن أغوص في عُمق الرواية كي يبدأ توحّدي معه. تلبّستني مشاعره بعد بضع صفحات فقط. وهزّتني فكرة اختفاء كُل شيء بغتة، أو بالأحرى تبدّلهم. أن يتسرّب مني واقعي في لمح البصر وأخسر نفسي التي أعرفها. شخصية جيسون ليست شخصية عادية هي بالأساس تستمد عُمقها من جذور نفوسنا!
شخصية أخرى ونُقطة مُهمّة
نصّ مخفيّ - لاطلاع من قرأ الرواية - اضغط على الأيقونة التالية:
الفكرة في عالم السنيما
فكرة العوالم المتوازية فكرة ليست بالجديدة، وهي فكرة تؤرق الإنسان منذ أن ابتدعها أفلاطون عندما اعتقد بأننا مُجرد انعكاسًا لعالم آخر! تناول الكثير من صُنّاع السنيما فكرة الاختيارات المُختلفة في حياة الإنسان من خلال عدة تنويعات مُتعددة مثل أثر الفراشة أو العودة إلى الماضي أو السفر إلى المُستقبل أو العوالم المتوازية أو حتى الأكوان المتوازية.
في عالم السنيما سنجد العديد من الأعمال التي اتخذت من فكرة العوالم الموازية تحديدًا أساسًا لأعمالها، لكن يختلف كل عمل فيهم في غايته والنقطة التي يُركّز عليها والأسلوب الذي يعرض به قصته. وبسبب هذا التعدّد قد يجد بعض القُرّاء رواية "المادة السوداء" عادية أو لم تُقدّم لهم جديدًا. وهذا أمر طبيعي كونهم قد شاهدوا الفكرة من قبل وفقدوا مُتعة اكتشاف لحظة الدهشة الأولى.
لكنني وعلى الرغم من أنني شاهدت عدة أعمال سنيمائية تتحدث عن نفس الفكرة أو أفكارًا مُشابهة على غرار Dark و Predestination - على سبيل المثال لا الحصر- إلا أنني وجدت رواية "المادة السوداء" أكثر تأثيرًا على نفسي من جميع الأفلام والمسلسلات التي تحدثت عن هذه الأفكار. هذا لا يعني أن تلك الأفلام أو المسلسلات لم تكن غير مُبهرة، بالعكس كانت قمة في الإتقان وعظيمة الإبهار من حيث التجربة البصرية وأيضًا من حيث الأداء التمثيلي. لكن -في رأيي- فإن العُمق الروائي الأدبي ما زال من الصعب نقله على إلى شاشات التليفزيون. تجربة القراءة نفسها تمنحك توحدّا مع الشخصيات ومع القصة بشكل فردي وحميمي للغاية. وهذا ما حدث معي في هذه الرواية.
قطة شرودنجر
كانت المرة الأولى التي أنظر إلى البُعد الفلسفي للنظرية أو لمفهومها، كان عندما قرأت مقالًا لطيفًا للراحل أحمد خالد توفيق بعنوان " أنت وقطة شرودنجر" وقد نُشِرَ في كتاب (شربة الحاج داوود) أقتبس منه قوله:
الحياة حشد من الاختيارات الطفيفة في كل مرة، لكن كل اختيار يقودك لمنعطف جديد. في النهاية تقف عند الجانب الآخر من المدينة وتتساءل أين كنت ستكون لو اخترت أشياء أخرى؟ الفكرة التي تصدع الرأس أن يكون هؤلاء جميعًا موجودين في أطراف المدينة الأخرى لكنك لا تعرف عنهم شيئًا ولا تعرف كيف تجدهم! - كل اختيار مهما صغر يمكن أن يضعنا في كون آخر مختلف تمامًا.. الحرية الحقيقية هي أن تعيش حياة لا ترغم فيها على الاختيار!
الترجمة
ترجم هذه الرواية المُترجم المصري عبد الرحيم يوسف، والحقيقة أنني أرى أن الترجمة عظيمة في جانب السرد الأدبي خاصة في الجانب النفسي للشخصيات. نقلت لي الترجمة كل مشاعر الحُب والحزن والشجن والألم والتعاسة والجزع والقلق والأمان والتوتر. وإن كُنت قد تأثّرت إلى هذا الحدّ فهذا لا يعني سوى أن المُترجم قد نجح في عمله؛ على أكمل وجه.
الإهداء الرائع
إلى أي شخص تساءل عمّا كانتْ تبدو عليه الحياة في نهاية الطريق الذي لم يسلكه.بليك كراوتش
اقتباسات
يا لها من معجزة أن يعود الناس إلى بيوتهم كل يوم- أن يحسّوا بالحُب. أن يكون هناك من ينتظرهمبليك كراوتش
كل لحظة، كل نفس، يحمل اختيارا. لكن الحياة ناقصة نقوم بالاختيارات الخطأ، لذلك ينتهي بنا الأمر ونحن نعيش في حالة من الندم الأبدي، وهل هناك أسوأ من ذلك؟بليك كراوتش
اعتقدت أنى أعطيت كل لحظة قدرها، لكن وأنا جالس هنا فى البرد، أعرف أنى أخذت الأمر كله كشيء مسلم به. وكيف كان لي ألا أفعل؟ حتى ينقلب كل شيء، لا تكون لدينا أي فكرة عارضة عما هو لدينا فعلاً، كيف يعتمد كل شيء، على بعضه بطريقة عارضة ومثالية معاً.بليك كراوتش
الشك يؤدي إلى الانحياز.... والانحياز لا يؤدي إلى الحقيقةبليك كراوتش
لماذا يتزوج الناس نسخا من أمهاتهم المسيطرات؟ أو آبائهن الغائبين؟ ليحاولوا تصحيح الأخطاء القديمة. لكي تصلح وأنت ناضج أشياء آذتك وأنت طفل. ربما لا يبدو هذا منطقيا على مستوى سطحي، لكن اللاوعي يسير وفق إيقاعه الخاصبليك كراوتش
يا دانيلا، على فراش موتي أُفضّل أن تعاودني ذكريات عنكِ أكثر من أن تكون ذكريات عن مُختبر مُعقّمبليك كراوتش
ما يُمكن أن يكون، وما قد كان،
يشيران إلى غاية واحدة، هي الحاضر دائمًا
صدى وقع أقدام يتردّد في الذاكرة،
وهي تقطع الممر الذي لم تسلكه،
نحو الباب الذي لم نفتحه قط.
تي إس إليوت "نورتون المُحترقة"
أنا واجهة واحدة لكائن ذي واجهات لا نهائية، قام بكل اختيار ممكن وعاش كل حياة متخيلة... أنا مجموع كل اختياراتي.بليك كراوتش
التقييم النهائي
لا أعرف كيف أقوم بتقييم رواية تركت أثرًا في نفسي بقي مُلازمًا لي طويلًا. رواية لمست داخلي وترًا أخفيته بعناية منذ فترة طويلة حتى نسيته، فإذا بي في مواجهة مع نفسي على حين غرّة!
رواية "المادة السوداء" للكاتب الأمريكي "بليك كراوتش" رواية رائعة، وسر روعتها يكمن في أنها تجعلك تمتنّ للعاديّ في حياتك وتُقدّره. وأن تُفكّر ألف مرة في فكرة أن تغيير اختيارات الماضي قطعًا سيحمل لك السعادة التي تمنّيتها.
في المُستقبل؛ إن عرض عليك أحد العُلماء عرضًا مُغريًا بأن تُمنح الفرصة كي تستبدل حياتك بحياة تمنّيتها من قبل. فكّر كثيرًا قبل أن توافق، لأنك قد تفني بقية عُمرك مُدافعًا بحياتك كي تُبقي على نفسك التي تعرفها!
تقييمي النهائي 5 نجوم