لرُبّما هي دعوة لإطلاق سراح القصة القصيرة مِن صندوق الأفكار النَمَطيّة للنشر!
لعلّه من الغريب
أن نجد في المكتبات كتابًا من ثلاث أو خمس أو عشر ورقات. كتابًا يحتوي على قصة
قصيرة مُنفردة. ذلك لأن القصة القصيرة -في عُرفِنا- محكوم عليها بالتواجد القسري
بين عدة قصص في الكتاب الواحد!
القصة القصيرة
بناء مُستَقلّ مُتكامل، أي أنه نصّ مُنغلق على نفسه سرديًا، مفتوح التأويل حسب
الأثر الذي يتركه في نفس قارئه. لكن الزمن القصير المُستغرَق في قراءة القصة الواحدة
قد يوهمنا بضآلة تأثير النصّ على القارئ. لهذا فمن الضروري أن تُقرأ القصة القصيرة
بتأنٍ وبشكل مُستقل ثم يُـتبَع القراءة وقت للتفكّر فيما وراء السطور، وزمنًا وجيزًا
لتأمّل النصّ.
سبب تميّز القصة القصيرة هو إيجازها... تكثيفها... تضمينها للمعنى في أقصر نصّ ممكن. هي مساحة سردية مُختَصرة تخفي داخلها من معانٍ أكثر مما تُظهِره. تختزل المضمون ثم تبثّه في نفس القارئ الذي يتلقاه كقُبلة حياة؛ يشهق معها حين انكشاف دلالة المغزى! هي ثقب أسود هائل التأثير ينقل كُل من يقع في مداره إلى أثير فضاء خاص تسبح في فلكه الحقائق الغائبة، والرغبات المنسيّة، والآمال التائهة، والأحلام المقتولة!
لم تُكتَب
القصة القصيرة منذ نشأتها من أجل ضمها إلى قصصٍ أخرى. بل من أجل أن تكون كل واحدة
منها عمل مُستقل مُنفرد له طابعه الخاص. صحيح أنه في بعض الأحيان يُمكن أن تُشكِّل
هذه القصص المُستقلّة سلسلة واحدة -في حال جمعها سويًا- تحت مظلة موضوع واحد شامل،
لكن ذلك لا يتعاكس مع استقلالية كلٍ منها.
يقتصر حضور القصة
القصيرة في وطننا العربي في قالب ثابت؛ وهو الشكل المُتعارف عليه للكُتب كـ"مجموعات
قصصية"، وهي الكُتب التي تضمّ عددًا من القصص القصيرة -في حدود عشر قصص في
المتوسط- لنفس المؤلّف أو لعدة مؤلفين. وهذا الشكل قد نشأ منذ فترة طويلة للغاية بسبب
مشكلات آلية الطباعة، فليس من المُربح ماديًا طبع قصة قصيرة ورقيًا بشكل مُستقل سواء
من ألف كلمة أو خمس آلاف أو حتى عشر آلاف كلمة، خاصة مع تكلفة التسويق والتوزيع التي
تزيد من التكلفة الإجمالية، فتسببّ مشكلة ضخمة في آلية تسعير هذه الكُتب القصيرة
إن وجدت. ولتقليل المجهودات والخدمات اللازمة لطباعة الكتاب، والذي سيُقلل التكلفة
بالتبعية، فكان الأفضل للجميع (قارئ-ناشر-موزّع) أن تُجمَع القصص القصيرة ثم
تُنشَر في كتاب واحد.
لكنّ في عصرنا
الحالي ومع التطورات المُذهلة المُتسارعة حولنا، ومع سهولة وانتشار عملية النشر
الإلكتروني التي خفّضت من تكلفة الطباعة، كما أضافت طُرقًا مُبتكرة للنشر والتسويق
وضمان سهولة التواصل بين القارئ والكاتب، صارت فكرة نشر الأعمال القصيرة المُنفردة؛
فكرة مثيرة وجذّابة.
نعم... إن فكرة
نشر القصص القصيرة مُنفردة بشكل إلكتروني، تنسجم مع طبيعة القصة القصيرة المُقتضبة،
وتضفي خصوصية مطلوبة لهذا النوع من الأدب، بل أن هذا يُعدّ أمرًا يُناسب قارئ هذا
العصر، خاصة من يبحث عن عمل أدبي لا يتعدّى زمن قراءته مدة لا تتجاوز ساعة أو نصف
ساعة أو أقل.
قد يرى البعض
أن الفكرة غريبة، لكن المُتابع للتغيّرات المتوالية من حولنا يدرك أن الأمر ليس
كذلك على الإطلاق، فهناك عدة دول -على سبيل المثال- قامت بتوفير ماكينات لطباعة
القصص القصيرة في المطارات مثل المملكة المتحدة (المصدر) وفرنسا (المصدر) والمملكة العربية السعودية (المصدر)،
حيث يُمكن للقارئ أن يختار الفترة الزمنية التي يرغب في قراءة العمل فيها لتُطبع
له قصة تُناسب اختياره من بضع خيارات مثل الومضة والقصة القصيرة جدًا والقصة
القصيرة.
لم يقتصر الأمر
على الثقافة الأدبية فقط، بل -وعلى سبيل المثال- في مجال آخر اتجّه صُنّاع الموسيقى
في الوطن العربي -ليلحقوا ببقية أنحاء العالم- إلى استحداث أشكال جديدة وعصرية ومُختلفة
عن الشكل التقليدي لإصدار الأغاني الموسيقية. والتي كانت تُصدر على شكل ألبومات (تجميع
لعدة أغنيات). فبدلًا من إصدار الأغاني في شكل ألبومات تقليدية (شرائط كاسيت
قديمًا – أقراص مُدمجة حديثًا)، أصبحنا نرى الآن أغنيات تُنشر بشكل فردي (Singles) أو ألبومات
قصيرة (Mini Album)، بل وأصبحت الأغنيات القديمة تُباع بشكل مُنفصل ومنفرد بعد فصلها
عن ألبوماتها الأصلية، وذلك على المنصات الإلكترونية. وهم بذلك يحاولون استغلال
التقنية من أجل انتشار أوسع وأسهل لجميع الأطراف.
إن النشر الإلكتروني
هو إحدى الوسائل التي يُمكن من خلالها التحرّر من الأفكار التقليدية التي تُسيطر
على عالم الكُتب والأدب وتمنع تَطوّره. كما أن الدعوة إلى نشر القصص القصيرة إلكترونيًا
بشكل مُنفرد، لا يعني إطلاقًا التوقف عن طباعتها بشكل مُجمّع في كتاب، فهناك من
القُرّاء من يرغب في القراءة الورقية وبشكل تقليدي. لكن من الحتمي ضرورة توفيرها
بشكل يناسب طبيعة عصرنا، ويُلبي حاجات جميع القُرّاء باختلاف تفضيلاتهم؛ وذلك من
خلال نشرها إلكترونيًا وإتاحتها في المكتبات الإلكترونية ومنصات النشر الإلكتروني
المختلفة بتبويب مُستقل وتسعير مُختلف.
قد يُحدِث النشر الإلكتروني تحوّلًا دراماتيكيًا في عملية انتشار هذا الجنس الأدبي. تَحَوّلًا قد يدفع أدب القصة القصيرة إلى مزيدٍ من الازدهار؛ حيث لن يتطلّب الأمر حينها
من الكاتب أن ينتظر حتى يقوم بتأليف عشر أو عشرين قصة من أجل موافقة دور النشر على
طباعتها؛ مما يدفعه إلى الإحجام عن كتابتها أو حبسها في درج مكتبه دون نشر. بل إن
نشر الكاتب هذه القصص بشكل مُنفرد قد يُحفّزه على الاستمرار في نشر كُل قصة فور
الانتهاء منها، لرؤية أثرها على القارئ مما يزيد من حماسه تجاه كتابة ونشر المزيد.
رُبما حان
الوقت كي نَخرج من الحيّز الضيّق التقليدي الذي يفرض علينا مزيجًا من نظرات اعتيادية
وتصوّرات نمطية ومفاهيم بالية. أن نسعى إلى إيجاد حلول مُختلفة لنشر الأدب والثقافة
بطرق إبداعية عصرية خلّاقة. وأن نعطي القصة القصيرة حريتها بعد سنوات طويلة عاشتها
داخل قفص المجموعات القصصية!
أحمد فؤاد
30 تموز يوليو
2021