"حين يخضع التاريخ لـ "وجهات
النظر"، فمن أين يستقي القارئ الحقائق؟ أيمكن للروايات أن تكتب تاريخاً
منصفاً وموازياً من خلال سرد ما أغفله المؤرخون؟"
هكذا أنهت الكاتبة العُمانية ليلى عبدالله
مقالها الأخير على جريدة النهار العربي بعنوان "ما بين ستالين وتروتسكي... هل تكذب كتب التاريخ؟" – رابط المقال.
لا شك أن ليلى أرادت من القارئ أن يحاول البحث بنفسه عن الإجابة. ولأن الأمر ليس بهذه السهولة التي يبدو عليها، فمن الضروري أن نفهم أن الإجابة على مثل هذا السؤال المُفخّخ بالاحتمالات المريبة؛ قد لا تحمل لنا حقيقة حاسمة. ذلك لأنها في الواقع تُعبّر عن وجهات نظرنا المبنيّة بالأساس على وجهات نظر لآخرين والتي هي بالتبعيّة مستندة على آراء أخرى! إنها سلسلة متشابكة مبنيّة على مزيج من الحقائق الرسمية والروايات الشعبية والأدب المناضل. سلسلة تكوّن لنا إرثًا تاريخيًا يجعله التداول من المسلّمات التي لا يمكن دحضها.
إن الأدب أسلوب ضروري ومحوري في التوثيق التاريخي.
لكن؛ أيمكن اعتباره وسيلة عادلة ونزيهة لكتابة التاريخ؟
لطالما حيّرني هذا السؤال "من أين نستقي الحقيقة التاريخية؟". الروايات -كتوثيق مستقل- وسيلة هامة للتعبير عن الرأي الآخر، وتوثيق المختلف أو التأكيد عليه على حد سواء. لكن الأدب -كوسيلة تعبير- يُمكن اعتباره "وجهة نظر" أيضًا. إذن؛ إلى أي مدى يمكن التأكد من حيادية الأدب وضمان عدم اعتماده على حلقة مزيفة دُسّت عمدًا في حلقات الإرث التاريخي المتداول؟
المعضلة في تزييف حدث ما في أحداث التاريخ هي أنها تتحوّل إلى حقيقة ثابتة! لهذا حَرصتْ السُلطات السياسية أو الاجتماعية أو الدينية دائمًا؛ على تطويع الأدب للتأثير على الجماهير
والإيحاء بإيجابية مصداقية الدولة السياسية أو الدينية.
روسيا تحديدًا وظّفت الأدب الروسي سياسيًا من قِبَل الحُكّام والسياسيين. حيث حوصر بشكل عنيف سواء قبل الثورة وحتى بعدها.
في روايته "مزرعة الحيوان" أبدع جورج أورويل في وصف الثورة الروسية وكيف تم الالتفاف عليها وعلى أهدافها ومبادئها من قِبَل ستالين.، لتصبح واقعًا رائعًا بالإجبار. لكن ذلك لا يعني أن الأدب كان طريقه ورديًا في مراحل سابقة في التاريخ الروسي.
فلا ننسى مثلاً إصرار الإمبراطور نيقولاس الأول على قراءة قصائد بوشكين بنفسه قبل السماح بطباعتها، وذلك منذ تأييد بوشكين انتفاضة 14 ديسمبر 1825م والتي تحدّت تنصيبه كقيصر. سبّب ذلك رُعبًا لبوشكين حتى أنه أحرق الكثير من قصائده خوفًا من اعتقاله، لكن ذلك لم يمنع من نفيه أحيانًا خارج البلاد، بل ويُقال إنه لقى مصرعه في مُبارزة خطط لها القصر الإمبراطوري بدهاء.
وعلى النقيض، نجد أن النظام السوفيتي والبلاشفة
يصرّح بإعجابه ببعض من قصائده التي انتقد فيها النظام الامبراطوري وتغنّى فيها بالحرية
والعدالة، بينما زعموا أن قصائده الوطنية التي لم تناسبهم بأنها كُتِبَت تحت ضغط
القيصر!
لكن يظل عهد ستالين هو العهد الأسوأ في
تاريخ الأدب الروسي على الإطلاق. أخضع ستالين الأدب ليكون في خدمة الدولة بشكل قسري في ذلك
الوقت. كما قام بالنفيّ و التضييق على كل من يعترض على النظام.
فرض الاتحاد السوفيتي قواعد صارمة
للكتابة الأدبية يجب على المُبدعين أن يتّبعوها. أذعن البعض فلمع صيته وأكمل
مسيرته رغم إنتاجهم الرديء، بينما واصل الآخرون الكتابة بصدق عن الواقع المُترع
بالفساد والقمع والظلم، فسُجنوا أو أُعدموا أو نفوا إلى معتقلات سيبيريا، وكان
المحظوظ فيهم من يتم فصله من اتحاد الكُتّاب أو من وظيفته بل وسحبوا منه منزله
ليبقوا مع أسرته في العراء على أرصفة الشوارع.
يسرد الكاتب والروائي العراقي د. جودت هوشيار -والذي عاش في الاتحاد السوفيتي السابق منذ الستينيات- في كتابه
"مأساة الكُتّاب الروس" الصادر عن دار الزمان عام 2019؛ مُعاناة
الكُتّاب الروس من ثورة أكتوبر وحتى زوال الإتحاد السوفيتي؛ والذين عقدوا آمالًا كبيرة
على الثورة الشيوعية وساندوها قبل أن ينقلب عليهم الشيوعيون بعدما تولوا السلطة.
كان من أشهر الضحايا المثقفين والأدباء في عصر ستالين: مارينا تسفيتايفا- انتحرت، أوسيب مندلشتام -اعتُقل حتى الموت، بوريس بيلنياك وإسحق بابل – حُكِم عليهما بالإعدام، مكسيم غوركي – عُوقب بقتل ابنه لرفضه كتابة رواية عن ستالين، ميخائيل بولغاكوف – اعتُقل ثم أُطلق سراحه مع متابعة أمنية. ولم يُسمح له في أواخر أيامه بالسفر إلى الخارج على الرغم من إشادة ستالين بكتاباته، وعلى الرغم من دفاع بولغاكوف عن روايته "المُعلّم ومارجريتا–الشيطان يزور موسكو" ليست سياسية.
على مدار التاريخ لم يستطع الساسة قهر
الأدب، لكنهم دأبوا على محاولة استمالته وتوظيفه لصالحهم بعد أن فطنوا إلى مدى عُمق تأثيره
في الإنسان. هكذا فعلت السلطة في ألمانيا النازية وفي اليابان بل وحتى في الدول
الديموقراطية مثل أمريكا وإنجلترا وفرنسا، وذلك في محاولة منهم لخلق نوع من الأدب
المزيف من أجل سرد وقائع متوافقة مع كتب التاريخ التي كتبوها بأيديهم!
لكن وعلى الرغم من ذلك، يظلّ الأدب هو الأكثر مصداقية -كمصدر انساني- في سرد التاريخ، ذلك لأنه لا يهتم سوى بمعاناة الإنسان. حيث ينقل نبض الحالة الاجتماعية المصاحبة لتلك الفترة الزمنية. ويُبرز أثر التغيرات السياسية أو الاجتماعية أو الدينية على حياة الفرد. الأدب لا يحاول أن يجيب على الأسئلة أو يخلق ثوابت تاريخية، وإنما يترك للقارئ الحرية في تكوين رأيه الخاص.
الأدب مَعنيّ بوصف معاناة الأفراد في مجتمعاتهم من الاضطهاد أو القتل أو النفي أو السجن، وتأثير الأحداث المختلفة على معيشة الفرد. وليس معنيًّا -كَكُتب التاريخ- بتوثيق الحدث بأسطر باردة على غرار "بدأت الحرب ومات ألف شخص؛ ثم انتهت"!
إن الأدب خُلِقَ من
المعاناة، ومن الصعب أن تنطلي المعاناة المزيفة المُتكلّفة على القارئ! هذا فقط ما
يضمن نجاح الأدب في سرد الحقائق التاريخية.
نعود لسؤال ليلى: "أيمكن للروايات
أن تكتب تاريخاً منصفاً وموازياً من خلال سرد ما أغفله المؤرخون؟"
في رأيي أن السؤال الأصعب هو "كيف
يمكننا تمييز الحقيقة بين الكتابات الأدبية المًستقلّة؟"
أعتقد أنه من الصعب أن نُميّز الحقيقة سوى بالقدر
الذي يمسّنا ويمسّ تجربتنا الشخصية أو تجارب آخرين ممن نعرفهم أو نثق بهم، ذلك
لأنهم هم من يصنعون لنا وعيًا جمعيًا نتّخذه بوصلة لنا لتكوين آراءنا
"المُنصِفَة"!
الأدب
وسيلة لا غنى عنها في توثيق وجه آخر للتاريخ. لكنه للأسف لن يعطينا حقيقة حاسمة!
الرابع من كانون الثاني يناير 2021