random
أخبار ساخنة

مُراجعة كتاب "المُغالطات المنطقية" - عادل مصطفى

     



     

في البدء كان الخطأ. في البدء كانت المُغالطة. في البدء كانت التحيزات المُتأصّلة والأوهام الموروثة والغائرة.

  


التفكير النقدي ليس شيئًا سليقيًا فطريًا، بل يحتاج إلى تعلّم وممارسة. وحين يُمارس المرءُ التفكير النقدي إنما يسبح ضد هذا التيار ويجتاز هذه "العوائق الطبيعية". ولهذا فإن دراسة المُغالطات المنطقية ينبغي أن تكون جُزءًا من التعليم الأساسي، وجزءًا من برامجنا الثقافية، لأن الأمن الحقيقي من عِلل "عقلية" غائرة إنما هي أمنٌ "عقلي" بالدرجة الأساس، أمنٌ فلسفي، أمنٌ منطقي.

 

هكذا يُنهي الكاتب عادل مصطفى كتابة الرائع "المُغالطات المنطقية – فصول في المنطق غير الصوري". وكما هو واضح؛ فإنه يشير إلى أهمية الكتاب وضرورة تعلّم كيفية تجهيز عقولنا للتفكير النقدي والذي هو مرحلة مُتقدمة من النمو المعرفي للإنسان. مما يساعده على كشف المُغالطات المنطقية، وتدعمه في التدليل على الحُجة الصحيحة التي تُفنّد تلك المُغالطات، مما يُساعد ذلك في الارتقاء بتفكير الناس ومناقشاتهم اليومية.

 

ما هو المنطق؟

 

يُعرّف قُطب الدين الرازي عِلم المنطق بأنه عِصمة الذهن عن الخطأ في الفِكر. أما القِدّيس توما الإكويني فيُعرّفه بأنه الفنّ الذي يقودنا بنظام وسهولة دون خطأ في عمليات العقل الاستدلالية. وعلى الرغم من عدم وجود مفهوم دقيق للمنطق، إلا أن الجميع يتفق أن مفهوم المنطق يشمل تصنيف الحجج والدلالة والبُرهان والاستدلال بما في ذلك المُفارقات والمُغالطات.

 

ينقسم المنطق إلى أربعة أقسام: المنطق الرمزي، والمنطق الرياضي، والمنطق الرسمي، والمنطق غير الصوري (غير الرسمي) والأخير هو الذي يتحدث عنه الكتاب. والمنطق غير الصوري معنيّ بدراسة الحجج اللغوية. ومن أهم فروع هذا القسم هو دراسة المُغالطات المنطقية.

 

ما هو المنطق غير الصوري؟


المنطق غير الصوري هو استخدام المنطق في تعرُّف الحجج وتحليلها وتقييمها، كما ترِدُ في سياقات الحديث العادي ومدلولات الحياة اليومية: في المحادثات الشخصية، والإعلانات، والجدل السياسي والقضائي، وفي شتّى ألوان التعليقات التي نصادفها في الصحف والإذاعة المرئية والمسموعة وشبكة الإنترنت وغير ذلك من وسائل الإعلام.

 

قد يتساءل البعض لماذا هذا التشديد من الكاتب على أهمية الإلمام بالمنطق غير الصوري. يجيب الكاتب على هذا السؤال بإجابة موجزة "ليس بالحق وحده تكسِبُ جدلًا أو تقهر خِصمًا أو تُقنِعُ الناس". ويُدلّل الكاتب على رأيه بقول أفلاطون في محاورة له مع جورجياس

 

في جدال حول الغذاء يدور أمام جمهورٍ من الأطفال، فإن الحلواني كفيلٌ بأن يهزم الطبيب. وفي جدال أمام جمهورٍ من الكِبار فإن سياسيًا تَسَلّح بالقُدرة الخطابية وحِيَل الإقناع كفيلٌ بأن يهزم أي مُهندس أو عسكري حتى لو كان موضوعُ الجدال هو من تخصُّص هذين الأخيرين، وليسكن تشييد الحصون أو الثغور! إن دغدغة عواطف الجمهور ورغباته لأشَدُّ إقناعًا من أي احتكام للعقل.

   

  

إن المُغالطات هي أنماطٌ شائعة من الحجج الباطلة التي يمكن كشفها في عملية تقييم الاستدلال غير الصوري.

 

قد تظنون بأن الأمر مُعقد، وبأن ليس هناك ضرورة لهذا التشديد في التعامل مع المُغالطات المنطقية، لكنني أؤكد لكم بأن هذا غير صحيح، لأن هذه المُغالطات نواجهها جميعًا في أغلب حواراتنا، ولابد من أن كل واحد مِنّا قد خسر جدالًا -على الرغم من أننا على صواب- مع أحدهم لمُجرد أنه قد أفحمنا بمُغالطة ما، أو أوحى للناس بأن يُصدّقوا كذبه وتضليله. لهذا يرى الكاتب أن الناس يجب عليهم أن يُتقنوا فن التعامل مع المُغالطات، وكشفها وإقصائها، وأن يجعلوا ردودهم جُزءًا من سياق الحديث، غير ناشزٍ أو مُستغرَب. وأن يُسمّوا المُغالطة باسمها بمرونة وخِفة دون تكلّف وحذلقة.

   

يوضح لنا الكاتب عادل مصطفى في كتابه؛ كيفية بناء عقلية استدلالية صحيحة مُحايدة نستطيع معها ألا نقع في فخ خداع أنفسنا. فمثلًا؛ يُحذّرنا بأنه قَلّما يولي الناس ثقتهم بآراء جاءت من مصدر يمقتونه، بغض النظر عن المزايا الفعلية لهذه الآراء نفسها. (مُغالطة لعن المصدر) – وأظن أننا نرى هذه المُغالطة بأنفسنا في الإعلام ممن حولنا وفي جميع وسائل التواصل الاجتماعي.

 

أيضًا في مجال الأدب أو الفنّ وتقييم أعمالها. نكون عُرضة لارتكاب مُغالطة منشئية، بحيث نهتم بحياة الفنان أو الكاتب وشخصيته وسيرته الذاتية، ونظن بذلك أننا نُقارب العمل الأدبي أو الفني مُقاربة فنّية، بينما نحن نبتعد تمامًا عن عالم الفن قدر ما ندخل عالم الحياة الشخصية للفنان أو الكاتب. (مُغالطة منشأ)

 

في الحقيقة أن المجال لا يتسع هنا أن أكتب أمثلة على الثلاثين مُغالطة ذُكِرت في الكتاب، لكن كل ما أستطيع أن أقوله إن هذا الكتاب مُهم جدًا وستتعجبون أثناء قراءته كيف أن أغلب المُغالطات المذكورة هي بالفعل مُتغلغلة في حياتنا، وأننا بشكل أو بآخر مُتورطون في هذه المُغالطات سواء كُنّا جانيين بها على آخرين أو أننا ضحية لها.

 

الكتاب لا ينفع معه أي تلخيصٍ ولا إيجازٍ لغير المُلمّين بما جاء فيه، بل يتطلب تركيزًا وتأملًا عميقًا لكُل ما جاء فيه، وأنصحكم ألا تثنيكم عناوين ومُسميّات المُغالطات عن قراءتها فتميلون لاستصعابها فتثبط عزيمتكم في الاستمرار في قراءة الكتاب إلى نهايته.

  

أخيرًا... أود الإشادة بلُغة الدكتور عادل مصطفى الرائعة الفخمة الماتعة المُبينَة السلسة الساحرة، والتي جعلتني أظن أحيانًا أنني أقرأ كتابًا عن اللغة وليس عن علم المنطق. ومن الواضح إلمام الكاتب باللغة بشكل مُبهرٍ وسلسٍ وواضح، مما جعلني أُبحر في عباب المعلومات الغامضة المُلغزة بكل انسيابية وإدراك وفهم.

 

 اقتباسات 

 

اكتسب القدرة على الانفصال عن رأيك، ووضعه على محك التحليل والنقد، مثلما تفعل مع آراء الغير.

 

كُن على استعداد من حيث المبدأ، للتخلي عن رأيك إذا ما تبيّن خطؤه.

 

ثمة فرق بين أن تعتنق رأيًا وبين أن تكون قادرًا على تبرير هذا الرأي. وعلى مُحبي الحكمة أن يتعلموا من درس الفلسفة أن هناك فارقًا بين الموقف نفسه وبين الحجج التي يستند إليها الموقف.

 

مهما بلغ نُضجك في التفكير النقدي ستظل بحاجة أبدًا إلى تحصيل العلم واكتساب المادة المعرفية التي تُعمِل فيها فكرك النقدي.

     

ليست الحرية شيئًا يُضاف إلى الفكر، فيكون لدينا فكرٌ حرٌ بعد أن كان لدينا فكرٌ غيرُ حر. فالفكر الحقيقي لا يكون إلا حرًا. بدون حرية أنت لا تفكر، بل تُرَدّدُ وتُكَرِّر وتُصفِر كجنادب الليل، وتبيع إحدى جوارحك كالبَغِيَّ لتشتري السلامة. الفكر غير الحُر ليس فِكرًا.

  

من المؤسف أن شطرًا كبيرًا من الحوار عندنا لم يَعُد محتكِمًا إلى العقل بل إلى العصا. فنحن لا ننظر إلى الاختلاف في الرأي على أنه ثراءٌ وخِصب، بل على أنه انحرافٌ وخيانة. وما نزال نُلوِّحُ بالعصا كلما أعوزتنا الحُجّة.

  

كان دور رجل القش سياسيًا، وما يزال؛ هو تأليب الرأي العام بالتعبير الخاطئ عن مواقف الخصوم السياسيين أو زُعماء الأحزاب الأخرى. (الشيطنة)

   

في أي مجتمع كبير – من الآمن لك أن تكون مُخطِئًا مع الأغلبية من أن تكون صائبًا وحدك. – جون كينيث جلبرايت.


    

 التقييم النهائي


كتاب المُغالطات المنطقية للدكتور عادل مُصطفى كتابٌ رائع يجب على كل انسان قراءته، لنفس السبب الذي ذكره الكاتب؛ لأن الأمن الحقيقي من عِلل "عقلية" غائرة إنما هي أمنٌ "عقلي" بالدرجة الأساس، أمنٌ فلسفي، أمنٌ منطقي.

 

تقييمي النهائي

5 من 5

 

الكتاب مُتوفّر بشكل مجاني على موقع هنداوي بجميع الصيغ ( نصيّ - مصوّر- كندل ) أي ( EPUB - PDF - KFX) وذلك على الرابط التالي:


رابط الكتاب على موقع مؤسسة هنداوي





أحمد فؤاد
21 أيلول سبتمبر 2020

author-img
أحمد فؤاد

تعليقات

تعليقان (2)
إرسال تعليق
  • Haifa photo
    Haifa23/9/20 8:12 ص

    اشكرك اشكرك على هذه المراجعة المملؤة بالمنطق
    كنت اخشى ان يكون الكتاب صعب الفهم

    حذف التعليق
    • Ahmad Fouad photo
      Ahmad Fouad23/9/20 8:22 ص

      سعيد بمروركِ هيفاء.

      حاولت قدر المُستطاع تبسيط المراجعة واختيار أبسط التعريفات للمنطق؛كي لا تكون المراجعة عصية على الفهم.

      الكتاب ليس صعبًا لكنه أيضاً يلزمه ذهنًا صافٍ أثناء القراءة.

      تحياتي 🌹

      حذف التعليق
    google-playkhamsatmostaqltradent