كُلّما زارني طيف عمّي سيّد، لا أشعر بالحزن على الرغم من رحيله عن الحياة منذ سنوات طويلة، يأتيني طيفه في كل مرةٍ مُبهجًا. لعلّ هذه البهجة مُتأصّلة في روحي منذ أن كان أبي يصحبني وأخواتي في رحلة من بورسعيد إلى القاهرة لاستقبال عمّي وأسرته في المطار . كانت تلك الرحلة تُعني بداية مهرجانًا صيفيًّا سنويًّا يحمل لنا كثيرًا من المرح والسعادة.
كان عمّي سيّد إنسانًا طيّب القلب. أتذكّر عندما كنت أجلس معه؛ أجده - على الرغم من سرعة انفعاله في بعض الأوقات- رجلًا حالمًا هادئًا تملأه مشاعر جيّاشة وإن كان يحرص على ألا يُعبّر عنها في كثير من الأحيان.
يحكي لي في بعض الأوقات عن الماضي فأنصت له وأشعر بأنه لا يراني وكأنه قد انتقل بالفعل في خياله إلى ذلك الماضي. يتوه في دخان سجائره التي رفض التخلّي عنها طوال حياته، وكأنه يبني بدخانها الكثيف حاجزًا سميكًا يعزله عن الحاضر لينعم بلحظات بعيدة لا تزال حيّة في قلبه.
حتى في أحاديثه مع أبي والتي كان يبوح له فيها بشجونه أثناء إجازته الصيفية في بورسعيد، كنت ألمس-رغم سنّي الصغير -في كلماته حنينًا إلى الماضي وشوقًا حارًا إلى مدينته الساكنة في قلبه بورسعيد. كنت أراه يتسنشق هواء البحر حتى يمتلأ صدره قبل أن يطلقه بزفير طويل قائلًا لأبي في حيرة " يا أخي لا أدري لماذا نحب هذه المدينة؟ غاية سعادتي هي أن أجلس هُنا وأستنشق نسيم البحر". كان يُحب مدينته ويشعر بأنه كالسمكة التي لا تستطيع الحياة إلا داخل بحرها.
كنت دومًا أتأمّله في جلساتنا، وللغرابة لم أكن أَمَلُّ من مُصاحبته رغم فترات الصمت الطويلة التي كانت تفصل بين أحاديثنا القصيرة. لم يكن يدري أنني كنت أتأمّله في صمت، أراقبه يُمشّط شعره مُستمتعًا تارة، أو يجلس مُنتشيًا في شرفة بيته المُطل على البحر تارة، أو يبتسم بصوته المميّز وهو يُعدّل نظارته أو يمسح شاربه الكثيف تارة أخرى. كان يملؤني هدوئَا عجيبًا في صُحبته، وكأن العالم لم يعد يعنينا في شيء. لهذا كنت أحرص دومًا على زيارته.
عندما انتقل إلى القاهرة للعيش فيها، لاحظت اضطرابه الذي بدا لي واضحًا رغم أنه كان يحاول دومًا أن يخفيه، واستشعرت بوحشةٍ تغمر روحه رغم العزوة التي حظيّ بها في القاهرة. قد لا يُقدّر البعض هذه الوحشة، وقد يصعب عليهم فهم هذا الشجن الذي يملأ روحه فلا تبرأ منه إلا بزيارة إلى بورسعيد؛ إن قُدّر عليها ألا تعيش فيها على الدوام.
بدا لي حينها أن هذا الارتباط الجارف ببورسعيد سببه غُربته الطويلة عن وطنه حينها، لكن السنوات اللاحقة أثبتت لي أنه كان مأسورًا بسحر تلك المدينة.
تُرى أهي لعنة ما تصيبنا بحُبِ الأرض التي ننتمي إليها؟ أم أن عمّي سيّدًا كان مُبالغًا في تعلّقه ببورسعيد؟
وعيتُ أنه لم يكن مُبالغًا في ارتباطه هذا، كان ذلك عندما وجدتني قد وقعت في نفس الفخ، وبعد أن اكتشفت أن بورسعيد صارت تجري في دمي وبأنني صرت –أيضًا- مسكونًا بحُب هذه المدينة. وفهمت أنه –رحمه الله- قد أهداني الحل قبل حتى أن أعرف السؤال!
"يا أخي لا أدري لماذا نُحب هذه المدينة؟!"
ما زال عمّي سيّد يعيش بتفاصيله داخلي رغم انسحابه المفاجئ من حياتي بحجّة الموت!
أدركت أننا من الممكن أن نعيش في قلوب الآخرين بأفعالنا، فنحن يُمكننا قول الكثير من خلال أفعالنا التي يراها ويلمسها من حولنا. أدركت أيضًا أن الترابط بين الناس –إن كان لوجه الله- هو ما يثري حياتنا بعلاقات نقيّة يبقى أثرها في النفس طالما حيينا.
لكن الحياة تمضي رغمًا عنّي، ويرحل الأحباء من حولي تِباعًا، فأتمسك بذكرياتي معهم، وأكتبها كي لا تخونني ذاكرتي ذات يوم فأنساها وأبقى وحيدًا بلا ذكريات تجعل العالم أقل وحشة في غيابهم.
تُرى هل سأترك إرثًا من الذكريات المُبهجة في قلوب الآخرين؟ هل سأكون سيّدًا آخرًا في حياة شخص ما؟
أسترجع كل تلك التفاصيل كلما اشتقت إليه، وأبتسم مُترحّمًا على روحه.
هكذا أضاف لي عمّي سيّد الكثير دون أن يدري؛ أضاف عُمقًا لحب الوطن، و معنى لبساطة الحياة، وألقًا لذكريات تبقى مُبهجةً في القلب مهما مرّ عليها الزمن.
رحمك الله يا عمّي العزيز.
أحمد فؤاد
13 تموز يوليو 2020