قبل أن أكتب
مُراجعتي أود أن أقر بأن هذا هو الكتاب الأول الذي أقرأه للكاتب، وبأنني لم أقرأ
للكتاب من قبل، ولم يرشّح لي أحدًا هذا الكتاب، وإن ما دعاني إلى قراءته هو أنني
قد قرأت مُصادفةً بعض الاقتباسات المُتفرقة للكاتب –من مجموع كتبه- والتي أعجبتني
جدًا، بالإضافة إلى مقال له عن العلمانية كان قد أثار انتباهي حينها.
لهذا أحسب أن
رأيي في الكتاب سيكون بمعزل عن أية آراء مُسبقة.
كتاب رحلتي
الفكرية للكاتب عبد الوهاب المسيري، هو ليس كتابًا تقليديًا عن السيرة الذاتية كما
توقعت. ظننت أنني لن أكمل قراءته بشكل متتالي بل بتجزئة قراءته بشكل متفرق وعلى
عدة أشهر. لكن العكس هو ما حدث تمامًا، فاجأني الكتاب منذ الصفحة الأولى والتي
يصارحنا فيها الكاتب بأن الكتاب ليس سيرة ذاتية موضوعية عن نفسه وحياته، وإنما هي
سيرة غير ذاتية وغير موضوعية، وهي في الحقيقة سيرة ذاتية لخلاصة تجربته الفكرية
التي تكوّنت عدة مرات بعد عدة عمليات تفكيك خلال سنين عمره.
ابتلعني
الكتاب تمامًا بعد أن استضافني الكاتب في معيّته لأشاهد بعينيه طفولته التي بدأت
تُشكّل وعيه، ثم تطوّر أفكاره وتغيّرها خلال رحلة شبابه وسفره، ثم التزامه بمشروعه
الفكري بكتابة موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، وأخيرًا علاقته بأسرته وأبنائه
وأحفاده.
سيلاحظ القارئ
أثناء قراءته وجود كم هائل من المعلومات والأفكار والأيدولوجيات والمصطلحات، حتى
يشك معها أنها حُشرت بدون هدف سوى إطالة صفحات الكتاب، لكن في كل مرة نرى فيها
المعلومة -من خلال نظرة المسيري- بشكل مختلف وجديد، حتى أنه في بعض الأحيان يجد
القارئ نفسه يسرح بخياله ليعيد هو ترتيب بعض أفكاره. عندما نربط كل مكونات حياة
المسيري -التي ذكرها في الكتاب- الفكرية والثقافية والإجتماعية والسياسية والأدبية
والنقدية والتحليلية والمعيشية اليومية؛ والتي تبدو غير ذات معنى عند النظر لها
بشكل منفرد. نستطيع بعد ربط كل ما سبق أن نرى لوحة الفسيفساء ( أو لوحة البازل)
الكبيرة التي لا يُمكن أن يُفهم مغزاها إلا بشكل مُكتمل.
هذا الكتاب لامس
داخلي رؤية كنت أؤمن بها دون أن أفهم منطقها، إذ وجدت أن أسلوب التحليل وإعادة صياغة
المفهوم والذي أقوم به دون وعي مني؛ في قراءتي للكتب وكتابة المراجعات عنها -وقد
كتبت عن ذلك في مقالي "لا تكتب مراجعة سخيفة."- بل حتى في كتابة بعض
المقالات والخواطر والتي تنتج عن تأمل عميق فيما يحيط بنا، هي نفس حركة التفكيك
وإعادة التركيب للروابط الموجودة سلفًا حولنا والتي تحدث عنها المسيري في كتابة
والذي كان يقوم بها في كل علاقاته في الحياة.
لا أبالغ إن
قلت أن هذا الكتاب قد غيّر في الكثير من أفكاري بشكل حقيقي، فقد كانت المرة الأولى
التي أقرأ فيها تحليلات وإسقاطات وربط مفاهيم العلمانية والعلمانية الشاملة والنسبية
والحداثة وما بعد الحداثة، والمادية والنيتشوية والدارونية والفرويدية والماركسية
والحلولية والبرجماتية والرومانتيكية، وإسقاط ذلك على العلاقات الإنسانية المحيطة
بنا. وعلاقة الانسان بالطبيعة من حوله وعلاقته بالله. وعن التنوّع والتسامح، وعن
التعاقد والتراحم في العلاقات الإنسانية، وكيف دمرت الثورة الصناعية تراحم المجتمع
الزراعي. ومسؤولية المؤسسات الضخمة عن ذلك. لأول مرة أقرأ عن كل ذلك بشكل مترابط
قوي من عقل آمن ببعض من هذه الأفكار في فترات من حياته. والأهم من ذلك أنها المرة
الأولى التي أقرأ عنها من وجهة نظر انسان عربي مسلم صاحب قضية فكرية ومبادئ عربية
أصيلة.
يُسقط الكاتب
كل ذلك على جميع ما حوله من علاقات، الزواج والجنس والدولة والحركات السياسية،
وبنية الحضارة الأمريكية، والحضارة الغربية بشكل عام، وعلى الروح والمادة والإيمان،
وعلى الوجدان التاريخي وارتباطه بالأرض، وعلى اليهود والصهيونية والكيان الصهيوني،
مما جعله يكتشف اليهود من جديد، بل وعلى قصص الأطفال أيضًا.
بوتقة ضخمة
وضع فيها كل أفكاره ليخرج في الثلث الأخير من حياته بقوله " تحوّل الإسلام بالنسبة لي من كونه
مجرد عقيدة أؤمن بها إلى رؤية للكون أؤمن بأنه يمكن للإنسان أن يوّلد منها نماذج
تحليلة ذات مقدرة تفسيرية عالية كما يعطي إجابات عن الأسئلة النهائية."
أعجبت بكيفية
التزام الكاتب بمشروعه الفكري بشكل متطرف، قام بعزل نفسه تقريبًا عن أغلب المشتتات
التي قد تمنعه، ورغم لم يكن مُنعزلًا عن السينيما أو الأعمال الفنية بشكل عام
كالرسم والموسيقى، بل اندهشت من أنه يقوم وسط كل ذلك بكتابة بعض الكتب الأخرى!
أحببت علاقته
بزوجته وتفاهمه معها، وأحسب أنها إنسانة عظيمة أن تتفهمه بهذا القدر من الإحتواء، خاصة
عندما قرر أن يتفرغ للكتابة وأن ينأى بنفسه عن صراع العمل المكتبي أو الأكاديمي كي
لا يتحول إلى عبد للمال، وكأنها تنفذ مقولة وراء كل رجل عظيم امرأة، خاصة أن هذا
التفاهم لم يثنيها عن مشاريعها العلمية بل على حصولها على درجة الدكتوراة. أعجبني
أيضًأ علاقته مع أبنائه وأحفاده، وفكرته عن الأطفال بشكل عام ومحاولاته إبعادهم عن
الحياة الاستهلاكية التي تمارسها الدعاية ضد الأطفال وخاصة في أفلام الرسوم
المتحركة.
أعجبني أيضًا
عدم استسلام الكاتب للإحباط في جميع مراحل حياته، ومواجهة مشاكله بكل عزم كي يجد
لها حلًا وإن كان مُجهدًا، وقد أفلح في معظمها متخذًا شطر أحمد شوقي شعارًا له
" وما نيل المطالب بالتمنّي... ولكن تؤخذ الدنيا غِلاباً"
أعتبر نفسي
محظوظًا بأنني قرأت هذا الكتاب في الأربعين من عمري، وأظن أنني كنت سأعتبره ثقيلًا
صعبًا عليّ إن كنت قد قرأته في فترة الشباب، صحيح أن هناك من الناس من يصلوا إلى
مرحلة من النضج الفكري في مرحلة مبكرة من أعمارهم، لكنني لم أكن واحدًا منهم على
كل حال. وأحسب أنني قد وصلت على مهلٍ تدريجيًا، إلى درجة من النضج تؤهلني ليس لقراءة
هذا الكتاب فقط وإنما لاستيعابه، وإنه لأمر مُرهق بالفعل.
كعادتي بعد
قراءة أي كتاب، تصفّحت الكثير من المراجعات على موقع جوودريدز، ووجدت أن السواد
الأعظم مُعجب بالكتاب. ولأن من المستحيل أن يتفق الناس جيمعهم على شيء ما،
فبالتأكيد قرأت بعض التقييمات السلبية للكتاب أو للكاتب. وقد تعجبت ممن يهاجمون
المسيري على تضخم الذات "الأنا" في هذا الكتاب، فالرجل قد صارح قُرّاءه
في بداية كتابه بأن رحلته غير موضوعية، ولا ينوي تقديمها بشكل مُحايد بالأساس. في
الحقيقة نحن لا نستطيع أن نكون حياديين مع أنفسنا بل ومع الآخرين بشكل كامل. لأن
الحياد التام معناه أن ننظر إلى أنفسنا من منظور خارجي، وبالتالي يجد أن نتخلّص من
ذاتنا، وبهذا نكون قد أصبحنا دون مرجعيتنا الخاصة التي كوّناها من خلال خبرتنا
وتجاربنا وطريقتنا في فهمها. أي أننا نتخلى عن كل ثابت... باختصار هي مرحلة نسبية
سائلة!
في رأيي أن
الدكتور عبد الوهاب المسيري - بمثل هذا الثراء الفكري- كان مًتصالحًا مع نفسه، ويرى
كأي انسان أنه كان على حق في آرائه التي حارب من أجلها وطوّرها خلال سنين حياته،
فمن هذا المحايد الذي لا يرى في نفسه هذا الحق؟! يذكرني الحياد الكامل بنكتة شهيرة
في لعبة كرة القدم حين يقول المُعلّق الرياضي على مباراة بين فريقين متنافسيين
"نتمنى الفوز للفريقين!"
أعتقد أنه من
البديهي أن يتحدث الكاتب عن نفسه في كتاب يتحدث عن مسيرته وحياته.
بالتأكيد
هناك بعض المبالغات في عرض وجهات نظر الكاتب مع معارضيه، من خلال مواجهات مبتورة
أو دون عرض آرائهم. ولكني أرى أن ذلك ليس دور الكاتب لأن الكاتب بالنهاية يُعبر عن
وجهة نظره، وإنما هو دور من يستطيع أن يقارن ويحلل ويفكك ويعيد تركيب الحوارات
التي تمت بين المسيري وبين معارضيه بحيادية في الطرح، مع ترك الحكم للقارئ.
في النهاية
لست من مُدّعي الثقافة، ولا أحاول الإيحاء بحنكتي الفكرية أو بإلمامي بعوالم الفلسفة
والسياسة والأيدولوجيات، كي أعلن أن الكتاب عميق ورائع لأظهر كقارئ أكثر إدراكًا
ممن لم يعجبهم الكتاب.
بل على
العكس، أنا مُجرد قارئ بسيط أرهقني الكتاب وجعلني أبحث كثيرًا في كتب أخرى وعلى
شبكة الإنترنت بحثًا عن العديد من الأفكار، كما أرغمني على إعادة التفكير في
العديد من نماذجي الإدراكية الجاهزة القديمة نسبيًأ، والتي أدركت مُتاخرًا أنه يجب
عليّ أن أفككها وأن أعيد تركيبها مرة أخرى – بل وبشكل مستمر- بناء على حركة عقلي
الديناميكية التي تتأثر بواقعي المتغيّر من حولي وبالكتب التي أقرأها فتُثري عقلي
باستمرار.
كتاب رحلتي
الفكرية: في البذور والجذور والثمر للكاتب عبد الوهاب المسيري، كتاب لن تكون بعد
قراءته نفس الشخص الذي بدأ به، حتى وإن لم يعجبك الكتاب.
تقييمي 5 من
5
27 شباط
فبراير 2020
اقتباسات
إن المطلوب هو حداثة جديدة تتبنى العلم والتكنولوجيا ولا تضرب بالقيم أو بالغائية الإنسانية عرض الحائط ، حداثة تحيى العقل ولا تميت القلب ، تنمى وجودنا المادى ولا تنكر الأبعاد الروحية لهذا الوجود ، تعيش الحاضر دون أن تنكر التراث.
الإنسان لا يتحمل الألم إلا من خلال إيمانه بشيء ما يتجاوز ذاته الضيق
هل تموت الفروسية بموت الفارس؟ هل تموت البطولة باستشهاد البطل ؟ وهل يختفي الصمود إن رحل بعض الصامدين؟
ويل للمرء الذي يربح كل شيء و يخسر نفسه
وقد تعلمت من هذه التجارب أن النجاح والفشل في الحياة العامة حسب المعايير السائدة ليس بالضرورة حكماً مصيباً أو نهائياً، وأن الإنسان قد يفشل بالمعايير السائدة، ولكنه قد ينجح بمعايير أكثر أصالة وإبداعاً
إن تأخير تكوين المثقف في العالم العربي أمر يؤثر في التنمية فهذا يعني أن الكثيرين يتساقطون في أثناء العملية التربوية ، وإن من يخرج سليما منها فإن سنين العطاء عنده تكون محدودة للغاية
السعادة لا تهبط من السماء، وإنما هي مثل العمل الفني، لا بد أن يكدّ المرء ويتعب في صياغته وصنعه، والزواج، مثل العمل الفني، أيضا، ومثل أي شيء إنساني مركب، يحتوي على إمكانات سلبية وإيجابية ولا يمكن فصل الواحد عن الآخر
الإذعان والقبول بالأمر الواقع هما جوهر الجمود والرجعية
إن حلم الفصحى ليس (حلم العودة)، وإنما حلم الانطلاق نحو غد يمسك فيه العرب بزمام أمرهم .. أما التحيز إلى العامية ، فهذا هو طريق الهزيمة والسوق الشرق أوسطية
الرغبة المعلوماتية حينما تنهش إنسانا فإنها تجعله يقرأ كل شيء حتى يعرف كل شيء، وينتهي الأمر بالمسكين أنه لا يعرف أي شيء
وقد وصفت العقل المادي بانه عقل يشبه عقل أشعة إكس من ناحية ، يمكنها أن تعطينا صورة لهيكل الإنسان العظمي لكنها لا يمكن أن تنقل لنا صورة الوجه الإنساني في أحزانه وأفراحه
لا يمكن الحكم على شيء ولا يمكن التمييز بين الخير والشر مع غياب المعيارية، فإصدار حكم على شيء ما خارجنا يتطلب وجود أرضية فلسفية تحوي درجة من الإطلاق متجاوزة لقوانين المادة والحركة، يمكن من خلالها تطوير معايير وموازين فلسفية وأخلاقية، تجعل بوسعنا الحكم والتمييز
كثيراً من شعوب العالم بدأت تتخلى عن رؤيتها وتحيزاتها النابعة من واقعها التاريخي والإنساني والوجودي وبدأت تتبنى عن وعي أو عن غير وعي الرؤية والتحيزات الغربية ، وبدأت تنظر إلى نفسها من وجهة نظر الغرب
الأدب العظيم يتعامل مع الإنسان في أقصى تركيبته