random
أخبار ساخنة

هل تسمح لي بالتقاط صورة معك؟

  
  

يصادف الإنسان في حياته العديد من المواقف المؤلمة التي تنتج عن معاملة سيئة من أحد الأشخاص. لكن من المؤسف أنه في بعض الأحيان قد لا يستطيع التعبير عن ضيقه أو غضبه من تلك المعاملة، رغم أن لديه كل الحق في الاعتراض. وذلك بعد أن يُفاجأ بأن مفاهيم المجتمع قد تغيّرت في غفلة من أفراده، وأصبحت تُكبّله بقيود لا يستطيع معها إلا الإذعان لها، حتى وإن كان فيها انتهاكًا صارخًا لحريته!
  


أحد أهم الأسباب التي غيّرت مفاهيم المجتمعات الحديثة هو بلا شك الاستخدام الخاطئ لمنصات التواصل الاجتماعي. والتي نشرت -دون قصد- الهوس المُهيمن على أفراد المجتمعات بحب الظهور والفوز بسبق صورة جديدة بأفكار مختلفة، والتفاخر بالسفر أو بالشراء أو بامتلاك المنتجات الغريبة أو باهظة الثمن. هوس اسمه "أنا الأفضل".

استشرى هذا الهوس ليصل إلى حد التباهي بأي شيء وكل شيء، التباهي بالأولاد أو بالملابس الجديدة أو بمنتجات حديثة أو بمشاعر زوجية أو عائلية، وحتى بخصوصيات أفراد أخرى.
  
على سبيل المثال... نرى في بعض المطاعم الطاهي الذي يقوم بتحضير الطعام أمام الزبائن بشكل مُباشر Live، نجده مُحاطًا بعدد من الزبائن يتناوبون عليه واحدًا تلو الآخر، يطلبون أطباقهم من الطعام الذي يُحضّره. يمسك أحدهم هاتفه المحمول، ثم يفتح الكاميرا ويبدأ في تصوير الفيديو، يتحدث ببعض التفاهات الفكاهية، ثم يصوّر الطاهي الذي يقوم بعمله، بل وقد يحتضنه من أجل صورة مُميزة تجمع ثلاثتهم (الزبون والطاهي والطعام!) ومن ثم يترك الطاهي لمصيره لمن يليه في الدور. يجلس على المائدة ويكتب تحت الصورة بعض الهراء قبل أن يرسلها للعالم كله، ثم ينسى الطعام الذي أمامه لأنه لم يكن يرغب به بالأساس!
  
عندما نتأمل هذا الفعل نتعجّب "كيف يقوم المرء بتصوير شخص آخر دون إذن منه ثم نشر صورته على الملأ؟"
  
الطاهي وظيفته أن يقوم بطهي الطعام وليس التعامل مع الزبائن بطبيعة الحال، يحاول أن يكون سريعًا من أجل تقديم خدمة مميزة للزبائن التي تحاوطه مُنتظرين أدوارهم... يقوم بعمله وسط حرارة النار، وبين تحديق عيون الناس به، بعضهم يمنحه ابتسامات وأغلبهم امتعاضات.

فلنضع أنفسنا مكان الطاهي؛ سنجده يُقابل أفعالهم برسم ابتسامة يمنحها لهم مُجبرًا كي لا يتم فصله.

أثناء قيامه بذلك، يخرج أحدهم هاتفه المحمول ليقوم بتصويره، لا يطلب منه إذنًا كأنه حقًا مفروضًا. أما إن فكّر برفض التصوير حينها يُلاقى بنظرات متوعدة وأحيانًا ببعض السباب المُقنّع، وقد يتجه الزبون إلى المدير للشكوى. والمدير بطبيعة الحال يؤمن بأن تُلبّى للعميل كل طلباته. لهذا فقد يُقرّعه المدير، ويتساءل في ضيق عن سبب رفضه، مُتعجبًا من استيائه من فرصة أن يكون مشهورًا وبأن تُنشَر صوره على كل منصات التواصل الاجتماعي!
   


   
يرضخ الطاهي في النهاية، وقد يقوم -بناء على نصيحة المدير- ببعض الحركات البهلوانية التي تجذب الزبائن الذين يأتون للتصوير وليس لتناول الطعام! وذلك وسط حالة من السعادة المؤقتة التي يعيش فيها الزبون خلال تصوير نفسه مع الطاهي، يثبت فيه للعالم قدرته على ارتياد أغلى المطاعم، أو أنه شخصية مرحة أو مثيرة، ويتبع الفيديو عشرات الصور الثابتة السيلفي، ثم يختار الزبون أفضلها كي يظهر فيها كملك جمال البشر في نظره، دون اعتبار لشكل الطاهي في صورته المُفترض نشرها -فلا مجال لرأيه بالأساس- قبل أن تُنشَر على الملأ.

على أحد منصات التواصل الاجتماعي ترى أسرة الطاهي –مُصادفة- تلك الصورة، وتتبعها صورًا وفيديوهات عديدة من أشخاص مختلفين. تشاهد الأسرة ضحكاته؛ تعرف زوجته أنها مُزيّفة. يزعجها أنهم يتعاملون مع زوجها كقطعة ديكور أو أثاث في المحل، يقومون بتصويرها بعد معاينتها والإعجاب بها. يصوّرون ويضحكون في مرح حقيقي أو مُفتعل، دون أن يكون له حق الاعتراض وكأن ذلك حق أصيل من حقوقهم.
  

لا ننكر أن هناك من العُمّال من يحبون ويرغبون في أن يُلتقط لهم الأخرون صورًا وأن تُنشر على الإنترنت، لكن على الأقل أن يحدث ذلك بُناء على رغبتهم الحُرّة، بأن يملكوا حق الموافقة أو الرفض. أن يُسألوا عن رأيهم، وألا يُقابَل رفضهم –في حالة الرفض- باستهجان.

لكن انتشار هذه الظاهرة جعلت فكرة التقاط صورًا للعاملين فكرة مُتعارف عليها ضمنيًا، وبالتالي لم تعد هناك حاجة لأخذ رأيهم، ظنًا منهم بأن هذه الصور هي جزء من وظيفة العامل.

ورغم أن معظم القوانين في بلداننا تحفظ حق أي مواطن في ألا يُصوَّر خِلسة، وألا تتداول صوره على المطبوعات أو المحتويات المرئية، دون أن يكون ذلك بموافقة منه. لكن يبدو أن بعض العاملين الذين يُصوّرن أثناء تأدية عملهم قد سقطوا من إحدى ثغرات تلك القوانين ليجدوا أنفسهم في منطقة رمادية لا تُكفَل فيها حقوقًا لهم.

   



  
   
لقد أصبح من الضروري في عصرنا هذا؛ إعادة النظر في أخلاقيات استخدام التكنولوجيا الحديثة، خاصة مع التطوّر الهائل لها في الفترة الأخيرة، وسهولة وصولها لجميع أفراد المجتمع، مهما بلغت درجة فقره أو جهله أو فساده. مما يستدعي التصدي لأي انتهاك لخصوصية الآخرين، وذلك من خلال نشر الوعي بآثار مثل هذه الظواهر المُستحدثة؛ على حرية المرء الشخصية. بالإضافة إلى أهمية تعزيز الإدراك الإجتماعي بأهمية احترام خصوصية جميع أفراد المجتمع. مع ضرورة التأكيد على مراعاة البُعد الإنساني للعاملين خلال أوقات العمل، وتوفير الحماية اللازمة لهم من ممارسات خاطئة.
  
إن رغبت أثناء زيارتك القادمة لأحد المطاعم – أو أي مكان آخر- أن تلتقط صورة مع عامل أثناء تأدية عمله، فقط اسأله أولًا مع ابتسامة ودودة"هل تسمح لي بالتقاط صورة معك؟"

أيًا كان رده... من فضلك... قل له شُكرًا


أحمد فؤاد
12 شباط فبراير 2020



author-img
أحمد فؤاد

تعليقات

تعليقان (2)
إرسال تعليق
  • سلمى photo
    سلمى22/6/21 2:25 م

    عدت إلى هذا المقال أمس

    فأثناء تواجدي بإحدى مراكز الأشعة ،تصادف وجود سيدة ،يبدو أنها تلقت لتوها نتيجة لأشعة ،تخبرها بشئ ما خطير ،وبدأت تبكي في صمت ،ثم بنشيج عال ،واذ بي ألمح شابًا في العقد الثالث من العمر ،يلتقط لها خلسة صورة وهي على هذا النحو
    ربما أراد أن يكتب مقالًا ما عن البائسين ،أو أراد إرفاق الصورة في بحثًا ما ،المهم أن السيدة ،رأت هذا الشاب وهو يلتقط الصورة ،ولكنها عجزت عن لومه وتظاهرت بعدم الإنتباه
    فيبدو أنه كما يقولون ‏عندما تبكي الروح فلها نشيج يتعسّر بوحه ، ودموع يتعذّر إيقافها.
    وهذا الشاب لم يحترم خصوصية الحالة ،مهما كانت مبرراته منطقية

    اعدت قراءة المقال والذي تمنيت أن يقرأه الجميع ،وان كنت قد تحدثت فيه أنت عن حالة أخف وطأة من إلتقاط الصور مع أشخاص هم على علم بذلك ،ولكن اغتصبت منهم موافقة ،ولم يستطيعوا الرفض او حتى إبداء الرأي

    أحمد أعتز بكل مقالاتك ،وأعود إليها بين الحين والأخر ،لأنها صدقًا من واقع مرير نحياه
    ادام الله إبداعك وقلمك

    حذف التعليق
    • Ahmad Fouad photo
      Ahmad Fouad23/6/21 9:54 ص

      تألّمت جدًا عندما قرأت رأيكِ، حيث رأيتُ بعين الخيال كُل ما حدث. كما أصاب تعبيركِ المؤلم قلبي عندما كتبتِ "اغتُصِبَت منهم موافقة"

      للأسف الشديد يعطي الناس لأنفسهم الحق في هتك خصوصية الناس حتى وإن كان ذلك بدون إرادتهم. لا أنكر أن الإنسان يتأثر بمثل هذه الحالات ويودّ أن يوثّقها للفت انتباه العالم. وما يفعله الموصّور نفعله نحن ككُتّاب عندما نصوّر نُبرز معاناة ما لأشخاص عاصرنا معاناتهم. أحيانًا يكون مجرد تأملنا لهم وقاحة برغم تأثرنا الشديد. إنهم يشعرون بنظراتنا تُعرّيهم أمام أنفسهم، كونها تجعل الحقيقة أمر واقع بدلًا من ترك احتمالات واهية لتكذيبها.

      أشكركِ يا سلمى على ردّكِ، وتأثرت جدًا بأن كلماتي باقية أثرها في عقلكِ.

      وأتشرّف دائمًا بعودتك وقراءتكِ لمقالاتي.

      ودّ

      حذف التعليق
    google-playkhamsatmostaqltradent