هوس تحدّي القراءة
في بداية هذا العام كنت أشعر بالحماس
الشديد تجاه القراءة، كوني عُدت بعد فترة انقطاع طويلة عن القراءة لأسباب شخصية، ولأنني
خشيت أن توقفني مشاغل الحياة – كما فعلت مرات عديدة- عن القراءة، فبحث عن
أفكار ألتمس فيها الدافع لاستمراري بالقراءة خلال العام. كانت فكرة مجموعات
القُرّاء فكرة مذهلة؛ حيث أن الاندماج معهم يجعلك دوماً تشعر بأن القراءة
فعل طبيعي يحدث كل يوم، يمارسه الكثير رغم ظروف حياتهم المختلفة.
تشمل هذه
المجموعات منصّات التواصل الاجتماعي المختلفة بالإضافة إلى موقع Goodreads الشهير، جيث بدأت في كتابة مراجعاتي للكتب التي أقرأها إيماناً مني بأن ذلك يُساعد من يرغب في البحث عن عناوين جديدة ، ناهيك عن متعة قراءة المراجعات للإطلاع على الآراء المُختلفة بعد الانتهاء من قراءة
الكتاب، وكأن هذه المراجعات تقوم بمناظرة بعضها البعض.
أثناء استعدادي لرحلة قراءة العام التي
نويتها، أرسل لي موقع Goodreads اقتراحًا بأن أقوم بوضع خطة للقراءة باختيار
عدد محدد من الكتب كوسيلة للتحفيز لإنهائها قبل انتهاء العام. لاحظت أن
الكثير ممن أتابعهم وبعض من أصدقائي قد قام بوضع خطة بالفعل، بعضهم كانت
خطته قراءة مائة كتاب وآخرين أقل من ذلك. أعجبتني الفكرة ظناً مني بأن هذه
الطريقة هي وسيلتي الحقيقية لمواجهة خطر التوقف عن القراءة. ليبدأ العام
وقد وضعت خطة قراءة ثلاثون كتاباً خلال العام.
ملحوظة: أعجبتني جداً إحدى الأفكار الرائعة
التي رأيتها في أحد الحسابات المختصة بالقراءة؛ حيث تُخصص نوعًا معيّنًا من الأدب لكل
شهر من شهور السنة، فمثلاً، شهر لقراءة الأدب التشيلي أو الهندي، وشهر
لقراءة الأدب الهندي، وشهر لقراءة التاريخ، وشهر لقراءة كتاب في الفلسفة،
وشهر لقراءة انجليزية، وشهر لقراءة تكنولوجية أو حتى مالية. مثل هذه
الأفكار جداً ممتازة ويعتبر نوعًا من التنوع والتخطيط الجيد لتوسيع مدارك
العقل.
حسنًا أأبدأ بالنتيجة أم بالتجربة؟ دعونا نبدأ بالنتيجة…
النتيجة
- قراءة خمسون كتاباً بدلاً من ثلاثين كما خطّطت أول العام.
- الاستمرار بالقراءة خلال العام حتى في أوقات الإجازة الصيفية الطويلة.
- القراءة اليومية، وهي تعني أن أغلب أيام السنة كنت أقرأ فيها، ما عدا بعض الأيام القليلة التي لم أفعل بسبب مرض أو عمل.
- كتابة مراجعة لجميع الكتب التي قرأتها خلال العام.
- قراءة مراجعات القُرّاء الآخرين على ما قرأته.
- مناقشة الكتب التي قرأتها مع بعض القُرّاء في المجموعات أو مع بعض الأصدقاء أو مع الأهل.
- راضٍ عن التنوّع في اختيارات الكتب التي قرأتها مقارنة بقراءاتي سابقاً، وأنوي تطوير آلية الاختيار لمزيد من التنوّع في العام القادم بإذن الله.
قبل أن أتحدث عن التجربة، أرغب في أن أوضح
بأنني أدركت أثناء تلك الرحلة، بأن غرضي ليس قراءة أكبر عدد من الكتب
والصفحات، بل كانت لي أهداف أراها أفضل بالنسبة لي وأكثر منطقية وهي:
- اعتماد القراءة اليومية كأسلوب حياة.
- الاستمتاع بكل كتاب أقرأه.
- محاولة التماهي مع أفكار الكتاب وطرح تساؤلات بعد الانتهاء منه والتأمل فيها.
- التعرّف على أنواع مختلفة من الأدب.
- التعرّف على كُتّاب مختلفين في أساليب كتابتهم وأفكارهم ومعتقداتهم.
- تحسين أسلوب الكتابة لديّ، ومحاولة اكتساب حصيلة لغوية.
- تطوير أسلوب التعبير لديّ بأسلوب عربي فصيح راقٍ بعد أن ضعفت أساليب التعبير لدينا في حياتنا العملية التي تعتمد على العاميّة.
- محاولة توسيع مداركي باكتساب معلومات حديدة مختلفة متخصصة في مختلف المجالات.
أما بالنسبة للتجربة، أعترف بأنني لم أستسغ
أبداً فكرة تحدّي القراءة أو ماراثون القراءة، أو أي من هذه المُسمّيات
التي غرضها الكَمّ وليس الكَيف. أتفهّم جيداً أن ذلك قد يعجب بعض
الناس ويستهويهم، إلا أنني لم أستطع أن أجد تصنيفاً لمثل هذه
المُسمّيات، لهذا فجمعتهم تحت تصنيف شخصي يخصني وحدي بأنه مجرد هراء.
نعم… أرى أن هذه التحدّيات هي هراء ولا أشعر
معها إلا بالشفقة على من ينقادون خلف مثل تلك التحدّيات السخيفة. التي لا
أرى أي فائدة منها سوى الاعتياد على معدل قراءة سريع جداً؛ أعلى من معدل
السرعة الطبيعي لها، فالقارئ يستطيع التحكم في سرعة قراءته حسب النص الذي
يقرأه، وحسب معرفته لما هو مكتوب سابقاً أو ما هو مهم بالنسبة له أو ممل في
نظره. وهذا الشيء طبيعي، لكن هناك سرعة زائدة عن المستوى الطبيعي ينقلب فيها الحال ويضيع معها الهدف المنشود، حيث يُلاحق فيها القارئ الحروف كي ينهي الجملة تلو الجملة بغية الانتهاء من أكبر عدد من الكلمات في أسرع وقت ممكن. ومثل هذه القراءة مفيدة في موضعين،
الأول عند قراءة الصحف، والثاني عند قراءة الأجزاء المملة التي تملأ الكتب
أو المقالات الغالب عليها الاستطراد أو الإسهاب والإطناب. نَمُرّ على النصوص بعيوننا سريعاً كي نُقدّر أهميتها ونقيس مدى
تأثيرها علينا، فإن شعرنا ملائمتها أذواقنا نعود مرة أخرى لقراءة تلك النصوص بتمهّل.
القراءة ليست مجرد التهام للحروف، بغرض
تمريرها على العقل لزمن يقل عن اللحظة الواحدة كي تخرج سريعاً من الذاكرة
كعربات القطار السريع في المدن الترفيهية والتي لا تستطيع عدّ عرباتها من
فرط سرعتها.
ما الفائدة من ذلك؟ قراءة مائة صفحة خلال ساعة؟ وهل نقيس إدراكنا وفهمنا بعدد الكلمات التي قرأناها أم بقوة تأثيرها علينا ومدى تأمّلنا وتعمّقنا في معانيها؟
لطالما دلّل الناس على أن أطعمة الوجبات السريعة جميعها سيئة للإنسان بصفة عامة وللجهاز الهضمي بصفة خاصة، قد لا ينافسها أي
طعام صحي في الوقت اللازم لتحضيرها أو لوقت لتناولها، لكنها تظل بكل تأكيد بلا طعم أو رائحة أو
فائدة… رائحة وطعم صناعي يتمثّل في ألوان ومحليات وصوديوم لخداع العقل. ألا ترون ثمة تشابه مع القراءة السريعة جداً في مثل تلك التحديات؟
فكّر وتأمّل في الأسئلة التالية:
- لماذا طلب الله منّا أن تتدبّر قراءة القرآن؟
- لماذا يُطلَب منّا التأنّي في قراءة دروسنا أثناء الاستذكار؟
- لماذا نقوم بإعادة مقاطع موسيقية لسماعها مرة تلو أخرى وسط سكون محيطي؟
- لماذا نتأمل لوحات بعينها دون المرور سريعاً أمامها؟
- لماذا نتوقف أمام النص؟ لماذا يستوقفنا اقتباس ما ونظل نتأمل فيه وننسى أحياناً أننا وسط قراءة كتاب أو رواية؟
إنه التأمل… تذوّق الحروف ومحاولة الاندماج فيها وإسقاط معانيها على أوجه مُختلفة. هذا التأمل هو ما يعطي النص روحاً ليقوم بالتأثير فيك، ليفتح لك طاقة
تنفذ منها إلى حياة أخرى في الخيال. يُعطيك الأمل في تحقيق الأحلام أو القدرة على مُرادعة النفس. باختصار؛ هي طاقة تصنع منك شخصاً جديداً.
تختلف طبائع الناس وأساليب حياتهم، فمنهم من لديه الوقت اللازم لالتهام العديد من الكتب، ومنهم من لا توجد لديه
حياة اجتماعية مثلاً أو لعلّها ضعيفة أو منعزلة هناك من يحاول أن يتخذ من القراءة
مهرباً وهناك من يتفاخر بعدد الكتب التي قرأها لمجرد التباهي، وهناك من هم
بالفعل يستطيعون قراءة كم كبير من الكتب لقدرتهم الحقيقية على القيام بذلك.
لهذا أقول إن طبائع الناس تختلف، ولهذا فليس كل ما يناسب الناس يُناسبني.
أنا أؤمن بأن الوسطية والتوازن هي أفضل مرحلة يصل إليها الانسان في أي مجال
أو تجربة يخوضها. وليس معنى التوازن هو الحيادية، بل إيجاد نقطة اتزان
خاصة تختلف من شخص لآخر يجد فيها نقطة تلاقي ما بين متعة داخلية مع قيمة
ذاتية تحقق له رغبته في استقرار نفسي.
للأسف قد يظن البعض أن الكتب المهمة هي فقط التي جمّلتها الشهرة، هيهات… فكم من الكتب الرائعة التي لا
نعرف عنها شيئاً أو حتى لم نسمع عنها بعد؟ مئات؟ آلاف؟ نحن ننتظر دومًا من مُترجمين وكشّافين يجوبون كل أنحاء العالم أن يترجموا أو يكتشفوا لنا جواهرًا لم يحالفنا الحظ في قراءتها.
اقرأ ولكن لا تجعل هوس القراءة يسرق سعادتك، فالقراءة وسيلة لجعل الحياة أفضل. القراءة فعل عقلي، فإن لم تقرأ الحروف بعقلك، فأنت لم تقرأ. كتاب في الشهر أو أكثر أو حتى أقل. لا تجعل ذلك هو همّك. فقط. استمر في القراءة.
افرد جناح عقلك كي يتحرر إلى آفاق بعيدة، وفكّر فيما قرأته بعد أن تنتهي
من قراءة كتاب وتطوي صفحاته، دع الأسئلة تنساب داخلك لتبدأ في رحلة محاولة
إيجاد إجابات عليها.
حينها فقط اعرف أنك قد قرأت.
أحمد فؤاد
28 كانون الأول ديسمبر 2018
رابط المقال على موقع انكتاب