سمكة حمراء تُطالعنا من داخل حوضها الصغير، وحيدة وسط سكون مُطمئن مصبوغ بلون البحر. أهناك فخُّ ألطف من ذلك؟!
قرار سهل
رواية قصيرة (نوڤيلا)… قرار سهل للقارئ كي يخوض تجربة قراءة جديدة دون الانخراط في نص طويل يصعب التخلص منه إن لم يعجبه. لكن بمجرد القراءة تتبدّد هذه الفكرة تمامًا. من الصعب التخلّص من أفكار جادة تشغل حيزًا من تفكيرك بشكل أو بآخر.
التكثيف المُستفيض!
ربما للوهلة الأولى نظن أن الكاتبة حشرت عدة موضوعات في نص قصير. لكن إن تَمَعّنّا النص وقرأنا الشخصيات جيدًا سندرك أن كل منها لها أحاسيسها المُركَّبَة والمُتشابكة. وهذا التشابك والتعقيد هو جزء أصيل في تركيب كل شخصية. أيضًا الشذرات المُقتبسة من أبيات شعر أو مقولات، هي لبنة جوهرية في شخصية البطلة. هذا المستوى من التعقيد النفسي البشري هو في الحقيقة ما يصنع فردانية الإنسان، وهو ما يجعلنا نفهم دوافع تصرفاته حتى وإن لم نفهم تفسيراتها! شخصيات الرواية شخصيات مُركّبة، ليست سوداء ولا بيضاء وربما ليست رمادية جدًا!!!
نحن أمام نصّ مُكثّف مُتعدد الطبقات، متشابك الصراعات، متداخل الأساليب؛ على مستوى الحوار والألفاظ والمعاني، وما هو مخفيّ بين السطور.
من الصعب إيجاد لفظ يوضح ما أقصده. ربما مصطلح”التكثيف المستفيض!“ -إن جاز التعبير- يفي بالغرض!
كشف حساب التجارب الأولى!
"خولة" الأم الغارقة في صراعات نفسية فرضتها عليها ظروف مختلفة: اجتماعية وسياسية وثقافية. تسلط بُثينة العيسى الضوء على لمحة من ظروف متعددة مرّت على بطلتها. وبعدما تهدأ أمواج الحياة المتلاطمة، وتسكن حياة خولة، يكون الوقت قد حان لرؤية أوضح لما كان مغمورًا في خضم رحلة العيش.
كشف حساب التجارب الأولى في الأمومة والعمل واللقاءات الثقافية والتليفزيون. تلك التجارب المليئة بالانفعال والمبالغة في ردود الأفعال. إنها المحاولات التي يشوبها ضعف الخبرة، وحلاوة الأحلام التي لم ترتطم بالواقع بعد. والتي تخضع بشكل أو بآخر بتأثرنا بالمجتمع وعاداته وتقاليده. إن التجارب الأولى هي الأساس التي تُبنى عليها خبرتنا اللاحقة في الحياة، لكن كل شيء له ثمن. وثمن إنقاذها لابنها -في تقديرها للأمور- هو سبب ما تعانيه من وحدة!
يختلف المنظور مع الأبناء سواء ناصر أو يوسف أو حمد. كل منهم بحسب عُمره. يختلف منظور كل ابن منهم ومدى إرهاقه ومشاكله مع خولة، حيث يرتبط عكسيًا بتجارب خولة وتطورها. فأر التجارب الأول كان ناصر، بينما كان الوضع أفضل مع يوسف، ويليه حمد.
منطقة الانكسار!
تقع عذابات أغلب البشر في المنطقة ما بين ”أنا أفعل ذلك من أجلك، وستفهم دوافعي عندما تكبر“ وبين ”أنت لم تفعل ذلك من أجلي، بل من أجلك أنت“. هذه هي منطقة الصمت عن كل تبرير لأفعالنا تجاه أطفالنا. نشعر بالمسؤولية تجاههم ونتخذ قرارات مصيرية لإنقاذهم من مصائر بعضها حقيقي وأغلبه ليس كذلك، دون أن نقدم تفسيرًا واضحًا لهم. ننتظر أن يفهموا بشكل تلقائي في يوم ما، ولكن وأثناء انتظارنا نتركهم في براثن الضلالات والتأويلات المغلوطة، دون أن يخطر على بالنا سؤال هام: ماذا إن لم يفهموا دوافعنا في اليوم المنتظر؟!
يدور الإنسان مهما كبر ونضج وشاخ في دائرة مغلقة من المشاعر المُعلّقة من حقبة الماضي إن لم يجد لها تفسيرًا يشعره بأنه شخص يستحق. لكن بعد وقوع الضرر، لا تفسيرات تفلح ولا اعتذارات تجدي. هذه هي المعادلة يجب أن ننظر بها إلى النص ونقيس دوافع الشخصيات بها.
الصراع داخلك أنت!
لا تتورط بُثينة العيسى في هذا التوتر الذي خلقته في نصّها. تدور كاميرا بُثينة الأدبية وسط دويّ صمت الاتهامات المتبادلة الذي يصمّ آذاننا. تاركة التأثير المُتراكم البادي على تصرفات شخصياتها يورطنا في دوامات أخلاقية لإصدار أحكامنا الشخصية على أصحاب الصراع!
من يتفق مع خولة في بعض أو أغلب تصرفاتها؟ تُرى أهي من سممت حياة ناصر؟ أم أن ناصر هو من انتحر معنويًا كمُكافأة بغيضة لخولة؟ أم تُرى يوسف هو من يُحرّك خيوط الصراع بشكل خفي؟ أو لعلّه حمد من يسخر منهم جميعًا؟
تضعك الكاتبة في هذه المُعضلة الأخلاقية وهي تعلم أنك ستستنكر وتستاء وتمتعض وتتعاطف وتتفهّم وترأف. فأنت بلا شك ستجد في كُلٍ منهم بعضًا منك!
كبسولة زرقاء أم حمراء!
قصتنا هنا قصة قصيرة ربما مشهد طويل واحد يتضمن بعض مشاهد من الذاكرة (Flashback) . وكأنني أرى النص كبسولة صغيرة مضغوطة. يتناولها القارئ بكل براءة مؤمنًا بقدرته الحكيمة على التفاعل معها. لكنه وقبل أن يدرك سذاجته، يكون أثر النص قد تمدّد داخل نفسه بشكل سرطاني. ينتزعه بقسوة من منطقته الآمنة المُزيّفة، ويحرمه من نعيم الاعتقاد بأنه خارج دائرة الهَمّ الإنساني المُشترَك!
في الواقع نحن القُرّاء نجازف مع كل نص جديد نقرؤه. وكأننا نمارس لعبة الروليت الروسية. لا ندري إن كان النص المقروء سيصيب أرواحنا في مقتل أم سيمرّ فارغًا بلا تأثير على النفس. المشكلة في لعبة الاحتمالات أننا في الوقت الذي نعرف فيه نتيجة اللعبة تكون إصابتنا قد باتت بليغة!
اقتباسات
إن أسوأ ما يمكن أن يحدث للأطلال هو ألا يبكي عليها أحد.
بل إنها لجأت إلى الحُجَّة المُبتذلة التي يستخدمها كل من يحاول النفاذ إلى مُثقّف عانى إحساسًا بالإهمال: الساحة تفتقد صوتكِ، في تلميح خبيث ومدروس إلى ضرورة وجود المُثقَف في الميدان.
كان وجهها قد انغمس في حُزنٍ داكن، وشعرت بأنها شاخت عقدًا في دقيقتين.
التقييم النهائي
على مدار مئة صفحة نقبع تحت قصف القذائف المُستمرة بلا هوادة لتكشف عن كل الخراب الكائن والمُستتر خلف أقنعتنا المُزيفة.
ومع ذلك، فإن من تأثّر بنص بُثينة العيسى في روايتها ”دار خولة“ ربما سيقع في حيرة من أمره عند محاولة تفسير الشعور الذي خلّفته كلماتها في نفسه. قد لا يدري حينها إن كان من المفترض أن يثمل باستعذاب وطأة تأثير النص على النفس، أم يندم كونه لم يكن مستعدًا لهذا القَدْر من الحقيقة المُرّة؛ حقيقة عوار المجتمع والروابط الإنسانية والوطن!
لم أتوقع أن تعصف بي هذه الرواية القصيرة بكل هذا العنف!
مع هذا المستوى من النضج الأدبي لقلم بثينة العيسى، صرت أترقب جديدها بحماس مشوّب بالقلق! وكيف لا وحروفها دومّا تنكأ الجرح.
رواية ”دار خولة“ إضافة مميزة للأدب العربي المُعاصر.
- نجمة = لم يعجبني
- نجمتان = مقبول
- 3 نجوم = أعجبني
- 4 نجوم = أعجبني بشدة
- 5 نجوم = استثنائي