random
أخبار ساخنة

مساحة حرة مزعومة للكتابة

 



عن عبث النشر في وسائل التواصل الاجتماعي

 



نؤمن من زمن بعيد أن الكاتب أو المُثقف من المفترض أن يكون له دورًا في رفع الوعي المُجتمعي. وهذا الدور تلزمه الشجاعة.


أي كاتب لا بُد وأن يكون لديه قدرًا ما من الشجاعة لنشر ما يكتبه (أو يتلفّظ به). لكن تُرى أيُمكننا أن نصف فعل التعبير عن آرائنا -في ظل العبث الذي يحدث في وسائل التواصل الاجتماعي- بالشجاعة!


في الماضي كان القتال رجلًا لرجل، وسيفًا لسيف. وفي الأدب كان السجال قلمًا لقلم. لكن هُزِمَت الشجاعة عندما اخُترع المسدس والقنبلة، وبعد أن أصبح في قدرة الفرد أن يسحق بلدة كاملة بضغطة زر بكل خِسَّة. ربما انضم السجال الأدبي أو الثقافي هذه الأيام إلى نفس المصير، والذي فيه يُمكن فيه للذباب الإلكتروني، وقوة الإعلان، وغِش الخوارزميات أن يمحق الحق في غمضة عين!

  


إن النشر على وسائل التواصل الاجتماعي هو فخّ يقع فيه الجميع بسبب إغرائه الشديد. إنها المساحة الحُرّة التي تجعلنا نُعبّر عن آرائنا بكل وضوح، وأن يجادلنا أصحاب الرأي الآخر، بل وأن يشارك الجمهور في هذا الحراك في تفاعل يبدو برَّاقًا صحيًّا للوهلة الأولى. ربما بدأ الأمر هكذا بالفعل، لكن لا يجادل عاقل في أن المدينة الفاضلة (اليوتوبيا) التي وُعِدنا بها في عالم التواصل الاجتماعي، قد تزعزعت أركانها حتى باتت جحيمًا بعد أن صارت مرتعًا للشرور، بعد أن وصلنا إلى مرحلة يتباهى فيه الحمقى بالتعبير عن آرائهم السخيفة، والتحريضية والعنصرية على الملأ.

   


في ظل المهاترات اللانهائية على ساحاته. لا وقت للحُجة والأدلة والبراهين. ولا وقت للاطلاع ولا وقت للقراءة. أصبح الكاتب مصدرًا للتسلية أو أداة للنقل، بدلًا من أن يكون مرجعًا للفكر ومُساعدًا في طريقة التفكير. 


صارت القيمة لمن يستطيع جذب المتابعين، في محاولة للاستفادة قدر المستطاع من شُهرة الإسم. وللاستفادة من العائد المادي بسبب تلك الشُهرة.





في عالم التواصل الاجتماعي يُنبَذ الرأي الصادق المُحايد لأنه لا يُقَدِّم مستويات إثارة للمتابعين، ولا يُقَدِّم إغراءات للُمعلنين، ولا يساعد في زيادة أعداد المتابعين للأصدقاء.



يُنبذ الرأي الهادئ لأننا في زمن لا مكان للهدوء فيه. أنت مجبر على الإدلاء برأيك في كل خبر يُنشر. وإن فكرت أن تتمهّل وتتريّث من أجل التفكير، ستكتشف عندما تدلي برأيك لاحقًا أن رأيك بات باردًا لا يثير شهية القُراء.


ربما يحاول البعض أن يُحكّم عقله في بعض المعارك الأدبية أو بعض الاختلافات في الرأي في بعض القضايا الاجتماعية أو السياسية أو الدينية. لكنهم يجدون انقسامات عنيفة واتهامات شرسة مهما بلغت تفاهة القضية التي يناقشونها. يحشد كل طرف من الأطراف حشوده ليحتمي بهم وليظهر رأيهم أنه رأي الأغلبية. إنها قوة التأثير الجمعية الخارقة لدوائر التواصل الاجتماعي، التي يُمكنها بكل سهولة تدمير شخص ما بكفاءة مدهشة.


صار حتى التأمّل في الآراء المتباينة، ثم التفكّر والتدبّر قبل الكتابة، اتهامًا مباشرًا تارة اتهامًا بالحياد وتارة اتهامًا بالتخاذل. بات الجميع واقعًا تحت ضغط عظيم للإدلاء برأيه في كل أمر وبشكل فوري، قبل أن يذوي التفاعل في الساحات! 


لا جدال في أن لكل فرد الحق في حرية التعبير عن رأيه، لكن يبدو وأن الحرية المُطلقة أضحت وسيلة للاستعراض والحثّ على البغض والعنصرية وتزييف الحقائق، وليست غاية للثراء المعرفي والمناقشات الهادفة والإبداع الفكري كما كنا نحلم من قبل!



رابط المقال على جريدة القبس الكويتية


أحمد فؤاد

27 كانون الأول - ديسمبر 2023

google-playkhamsatmostaqltradent