random
أخبار ساخنة

مراجعة رواية "حبل الروح" - ليو بيروتس


  


   

في قلب الضباب تختبئ الحقائق. يتلاشى وضوحها. يبهت أثرها. ويتوه الباحث عنها وسط دوامة الالتباس، فيغوص في لُجّةٍ من الحيرة والبلبلة في إثر ملاحقة بريق الحقيقة المُضمحل.

   
   

الغموض سيد الموقف

منذ اللحظة الأولى التي يستيقظ فيها بطل الرواية "أمبيرج" يصف حالته بأنها عبارة عن شعور بالوعي المُسربل بالغموض. ومنذ تلك اللحظة نشاركه رحلته في محاولات البحث في دهاليز ذاكرته من أجل أن نفهم كيف وصل إلى هذا المستشفى التي استيقظ فيها.

  
رويدًا رويدًا ومع غوصنا في التفاصيل الغريبة، تتلبّسنا حالة من الريبة والدهشة والتعجب في هذه الرحلة. وخلف الضباب الذي يلف القرية نعيش في عالم قوطي غارق في الغموض. بصحبة بارون إقطاعي وعالمة وأمير وطبيب وناظر عزبة من أصول نبيلة وقصر وفلاحين.

  
ورغم هدوء أحداث الرواية وميلها للأسلوب المسرحي في بعض المواضع (كُتبت عام 1933) إلا أنها جاءت مثيرة ومشوقة. فالقارئ حتى الصفحات الأخيرة في الرواية لا يزال يبحث عن الحقيقة ويحاول ربط الأحداث، بل وربما يقرر أن يختار لنفسه نهاية أخرى غير التي انتهت إليها الرواية!

  



   
  

إسقاطات... إسقاطات... إسقاطات!


إن الإثارة الحقيقة في رأيي تقبع بين السطور وخلف الستار الكثيف من الإسقاطات المترعة في الرواية. فالكتاب مليء بالإسقاطات السياسية والدينية حتى النُخاع. رُبما لن ينتبه لهذه الإسقاطات قارئ زمننا المُعاصر، لكن يجب أن ندرك السياق التاريخي الذي كُتبت فيه الرواية، والتي كُتبت عام 1933.

  
الإسقاط الأول هو القرية المُغلفة بالضباب والذي قصد بها الكاتب الدولة الألمانية بزعامة هتلر.
   
والإسقاط الثاني هو البارون والذي قصد به الكاتب شخصية هتلر ودورها بأفكاره وطموحه وجنونه.
   
والإسقاط الثالث كيفية استخدام السياسة للدين أو بالأحرى لخصائص الإيمان وتأثيره على البشر، ودوره في خلق إيديولوجيا متطرفة. ولأنني لا أريد أن أحرق أحداث الرواية، أنصح القارئ بإعادة قراءة الربع الأخير منها والانتباه إلى مضمون الحوارات، وذلك بعد وضع الإسقاطات التي ذكرتهم في اعتباره.
  

ولا عجب إن عرفنا -بعد إلمامنا بتلك الإسقاطات- أن الرواية مُنعت في ألمانيا فور نشرها.
  

ولا أنكر أنني مندهش من تشابه الطرق -باختلاف المُسمّيات- التي تستثار بها الجموع وتؤثر في حماسته وقراراته والتي نجدها بشكل مُفصل في عشرات الكُتب التي كتبت عن هذا الأمر لعل من أشهرها كتاب "المؤمن الصادق" لإريك هوفر (صدر عام 1951) وكتاب "سيكولوجية الجماهير" لغوستاف لوبون. (صدر عام 1895)

      
  


السرد


يملك ليو بيروتس قلمًا رائعًا، ولديه قُدرة عجيبة على تطويع الكلمات من أجل خلق تناغم بين الجُمل والفقرات. ربما لم تكن الأحداث سريعة، لكنها جاءت ملائمة جدًا للزمن المكتوب فيه الرواية بالإضافة إلى مناسبتها لزمن الأحداث. وربما لن يلحظ القارئ أي بُطء في الأحداث بسبب مهارة الكاتب في تهيئة بيئة من الغموض نابعة من النص. خلق هذا الغموض نوع من الترقّب في نفس القارئ الذي سيصل إلى مشارف النهاية التي ربما لم يكن يتوقعها.

   





ليس غريبًا على الإطلاق أن يتحمّس لليو بيروتس، الكاتب لويس بورخيس ويصفه كأعظم كُتّاب الأدب الغرائبي في عصره، ويسعى إلى ترجمة أعماله، باعتباره مؤسس الواقعية السحرية في ثوبها الشرق أوروبي. وأيضًا ليس غريبًا أن يصف كُتَّابٌ بثِقَل إيتالو كالفينو وألفريد هيتشكوك وفريدريش دورينمات بأنهم من كبار مُعجبيه.
   
    
  

الترجمة

لم أكن لأستمتع بسرد مثل سرد ليو بيروتس بدون ترجمة مُتمكّنة وقادرة على إبقاء جذوة ترقّبي مُشتعلة. أعجبني اختيار المُترجم لأغلب الألفاظ، وإجادته في تركيب الجُمل. وأنا أعرف أن الترجمة من الألمانية ليس أمرًا سهلًا. ربما رأيت أن هناك بعض الألفاظ كانت لتُعبّر عن المعنى بشكل أفضل في سياق الرواية على سبيل المثال كلمة "عقيدة" بدلًا من "إيمان"، لكنني قد أتفهّم سبب تفضيل المُترجم للكلمة الأخيرة وذلك لإبقاء المدلول قابلًا للمقارنة بين الجانب الديني والجانب السياسي مثلما أراد الكاتب ليو.
   

   

ترجم الرواية المُترجم المصري أحمد الزناتي، وأرى أنه قام بعمله ببراعة يستحق عليها الإشادة.

  
  


اقتباسات

   




لماذا يختفي الإيمان بالله في العالم؟ - لا يختفي، وإنما تختفي جذوة الإيمان به.


   
  




لكل عصر إيمانه، وإيمان يومنا هذا هو الثورة. وهل الثورة إيمان؟ الحلم بإعادة تنظيم العالم بطرق عنيفة. أليس لهذا الإيمان إنجيله وأساطريه ومُعتقداته وكهنته وأحزابه وشهوداؤه وجنّته كأنه نوع آخر من الإيمان؟ ألا تُهرَق أنهار الدماء جميع أرجاء الأرض انتصارًا لهذا الإيمان؟



   
  

التقييم النهائي


بين اليقين والارتياب يعيش الإنسان حياته، ووسط طوفان من الحقائق الزائفة يكتشف أنها لم تكن سوى أكاذيب عليه فقط أن يختار منها ما يصدّقها!

    
رواية "حبل الروح" (اسمها الأصلي: ثلج القديس بطرس) للكاتب التشيكي النمساوي "ليو بيروتس" – رواية قصيرة قوطية مُتقنة مليئة بالغموض ومُفخّخة بالشكّ بأسلوب سردي مُمتع لمن يهوى هذه الأجواء. ومع ترجمة سلسة بليغة؛ من الصعب ألا تكون هذه الرواية على قائمة قراءة أي قارئ.

     

تقييمي 4 نجوم 


   
  
معيار التقييم:

  • نجمة = لم يعجبني
  • نجمتان = مقبول
  • 3 نجوم = أعجبني
  • 4 نجوم = أعجبني بشدة
  • 5 نجوم = استثنائي
   
أحمد فؤاد

10 تشرين الأول / أكتوبر 2023 




google-playkhamsatmostaqltradent