الحقيقة ليست هي الغاية دائمًا!
رُبما اجتمعت عدة عوامل جعلتني غير مُتحمّس لقراءة هذه الرواية رغم الترشيحات القوية لها. حتى أنني وبعد ما انتهيت من قراءتها ما زلت أسأل نفسي: كيف أتممتها بهذه السُرعة؟! كيف أمكنني تجاوز بُطء الأحداث الطويلة التي تدور في قاعة المُحاكمة؟ كيف استسغت القصة المُكررة عن الظُلم والانتقام؟ وكيف غلب عليّ القلق والترقّب على مصير الشخصيات رغم توقعي النهاية؟
كيف يمكن لشخص مثلي أن يُقيّم هذه الرواية بخمس نجوم!!!
الأحداث التي تدور في قاعات المُحاكمة بشكل عام لا تحظى بإعجاب كثير من القُراء وأعترف أنني أحدهم. فأغلب هذه الأحداث تعتمد على ترتيب الأوراق وفنّ قلب الحقائق ومهارة التأثير على القاضي أو الشهود أو المُحلّفين. ربما هذا تحديدًا ما يجعلني لا أحب هذا النوع من الأحداث، لأنها تُذكرني بحقيقة مؤلمة: أن الحقيقة ليست هي غاية المُحاميين، وأن البراءة في كثير من الأحيان ليست سوى جائزة تُمنَح للفائز في مباريات المرافعات؛ لا للشخص البريء.
في حُب المُرافعات!
استطاع الكاتب البريطاني ”جيفري آرشتر“ الاستحواذ على اهتمامي بأسلوبه الرائع في السرد. ونجح في شحذ حماسي مع تصاعد الأحداث التدريجي.
لم أكن لأصدق أنني سأقع أسيرًا في حُب المُرافعات في هذه الرواية، حتى أنني كُنت أنتظر بكل شغف المرافعة التالية. كانت المرافعات جدًا رائعة ومؤثرة ومُبهرة في صياغتها وأسلوب تقديمها، لكن ليس هذا هو بيت القصيد. المُدهش هو أن جيفري آرتشر استطاع أن يُسلّط الضوء على جوهر تلك المرافعات. إنها مباراة ذكاء خارقة. مع قليل من الخيال تشعر بأن المحكمة عبارة عن رُقعة شطرنج يحاول كل طرف من الأطراف المُتبارزة أن يستخدم كل ما لديه من حِيَل للفوز بالبراءة لموكّله. هي فصل من مباراة طويلة تمتد إلى عُمق التاريخ، مباراة بين الخير والشر، بين الحق والباطل، بين الصدق والكذب.
يُقحم الكاتب القارئ في جميع التفاصيل، يُطلعه على التفاصيل والشخصيات والحِيَل والخداع والمكائد التي تُستخدم من كل طرف. يكشف لنا الكاتب طرق التأثير على هيئة المُحلّفين (في القضاء الغربي) ومحاولات القاضي للوقوف في وجه ذلك والحرص على استقاء الحقيقة.
الرواية طويلة جدًا تجاوزت صفحاتها السبعمائة صفحة، وعلى الرغم من ذلك قرأتها في بضعة أيام وأنا على سفر. واندهشت أنا أسرتني وأوقعتني في شباكها حتى أنني غفلت عما حولي أثناء قراءتي. وكنت أنتظر أي وقت فراغ أو توقّف في رحلتي كي أجلس في أحد المقاهي أو قبل النوم كي أُكمل المرافعات المثيرة والمباراة بين ردماين العجوز والشاب بريسون.
اقتباسات
أي شخص يُمكنه أن يكون مُنتصرًا. لكن ما يُميّز الرجل العظيم هو كيف يتعامل مع الهزيمة؟
سيدي، إذا لم يتمكن الرجل من التعبير عن آرائه الصريحة في المحكمة الجنائية المركزية، فهل يمكنك أن تنصحني في أي مكان آخر على الأرض يُمكنه ذكر ما يعتقد أنه الحقيقة بكل حرية؟
نعاني جميعا بطرق مختلفة كوننا سجناء بالميلاد.
لقد اكتشفت مع تقدم السنوات أن القليل من الأشياء سوداء أو بيضاء بشكل تام، ولكن في كثير من الأحيان وجدت ظلال لا مختلفة لا تُعدّ من اللون الرمادي.
على هامش المراجعة
اطلعت على سيرة الكاتب البريطاني ”جيفري آرتشر“ وهو حاصل على لقب لورد بالمناسبة. جيفري كان سياسيًا حيث كان نائبًا في البرلمان وعمدة لندن، ويبدو أنه كان مفوّهًا وهذا يُفسّر تقديمه للمرافعات بشكل ساحر. أيضًا اكتشفت أن جيفري سُجن لمدة عامين بسبب تُهمة شهادة زور وتعطيل مجرى العدالة، وذلك بسبب اتهامه بالكذب للخروج من تهمة سابقة كان قد ربحها وأخذ تعويضًا كبيرًا بسببها. وهذا يُفسّر أيضًا اطلاعه الكبير بتفاصيل عالم السجن والمرافعات. ربما كان جيفري أرتشر مُذنبًا وربما كان بريئًا. اطلعت على تفاصيل القضية ولكننا لن نعرف الحقيقة كاملة بل حتى ربما لن يعرفها القاضي الذي قضى بذاك الحُكم. ألاعيب المُحاماة لا تنتهي، والبراءة كثيرًا -كما نرى على أرض الواقع- لا تُمنح للأبرياء وإنما لمن لديه سحر التأثير أو لديه براعة ترتيب الأوراق واستخدامها في الوقت المناسب.
التقييم النهائي
رواية "سجين بالميلاد" من الروايات الممتعة على الرغم من بعض الهنّات في الحبكة، وعلى الرغم من طول الرواية، لكن المتعة الحقيقية هي في المباراة المثيرة في عالم المرافعات بين المحاميين والتي قد يستاء القارئ عند انتهاء جولة من جولاتها فيكره أحداث الرواية التي تقاطع هذه المرافعات!
كانت هذه الرواية مفاجأة جميلة بالنسبة لي.
تقييمي 5 نجوم
- نجمة = لم يعجبني
- نجمتان = مقبول
- 3 نجوم = أعجبني
- 4 نجوم = أعجبني بشدة
- 5 نجوم = استثنائي
10 نيسان/ أبريل 2023