random
أخبار ساخنة

إن اكتملت مُتّ

 




مواقع التواصل الاجتماعي لا تعطيك الفرصة كي تُفكّر.


في عالم التواصل الاجتماعي هناك عُرفٌ مُتفق عليه ألا وهو المشاركة والتعبير عن وجهة نظرك في جميع الأمور. غريزتنا تدفعنا إلى المشاركة. تتنوع أشكال المشاركة الاجتماعية، وإحدى هذه الأشكال هي مشاركة الأفكار وإبداء الرأي. وهذا أمر رائع في حقيقة الأمر، لأنك كإنسان لك رأي مُستقل بك يعكس أهمية تفكيرك. لكن المشكلة تكمن في أن كثير من القضايا المُثارة ليس الهدف منها إيجاد حلّ وإنما الهدف منها إزكاء التفاعل وزيادة الموضوعات الرائجة Trends لضمان أكبر قدر من الانتشار.


في البداية يُثار موضوع ما بسبب حادثة حقيقية أو مُفتعلة، ثم يقوم البعض بالتعبير عن رأيهم في هذه الحادثة أو الموضوع بشكل سريع وآني، غضب أو سعادة أو ترويج أو مدح أو سبّ وقذف!


أغلب الناس يقعون في فخ التأثّر بالرأي الرائج على وسائل التواصل، والمتوافق عليه بين أشخاص يحترمون ويثقون في آرائهم والذين هم بالتبعية واقعين تحت تأثير مجموعة أخرى من المؤثرين.


من النادر أن نكون من أوائل من حضر بداية (التريند)، لأنه يكون مجرد حدث عادي قبل انتشاره، وعندما يصلنا يكون الموضوع أو التريند مُلبّد بمئات التعليقات. بالعادة نبدأ بقراءة تعليقات لمن نحب أو نحترم رأيه، والتي تأخذنا بدورها إلى آراء أخرى لمن لا نقبل بآرائهم. تريحنا بعض الآراء وتستفزنا بعضها الآخر. حينها تبدأ الغواية… غواية التعبير عن رأينا وإثبات الحضور.


الخدعة هنا تكمن في أن (التريند) يُمثّل ضغطًا علينا ويدفعنا إلى المُشاركة في أسرع وقت مُمكن خشية ضياع اللحظة المُناسبة لعرض آراءنا والتي ستفقد قيمتها فور انتهاء رواج المواضيع، حسب قوانين عالم التواصل الاجتماعي.


يدفعنا ذلك إلى كتابة آرائنا بشكل انفعالي وفوري مُتأثرين بما قرأنا من تعليقات سابقة. فتُحفّز بدورها بعض المُتابعين لتأكيد موقفنا أو إلى الانضمام لها، بينما تستفز تعليقاتنا البعض الآخر ليصبّ جام غضبه علينا، لتستمر الدائرة في التمدّد.


نحن في الواقع لا نأخذ أي فرصة حقيقية للتفكير في الأمر. نحن لا نتأمّل. لأن الكثير يسخرون من التأمّل والتفكّر والتدبّر بحجة أننا ليس لدينا وقت لذلك. الموضوع ساخن والنقاش حاد، والتأمّل يحتاج إلى تفكير حقيقي، وإلى تأنّي، وإلى بحث، وإلى مواجهة النفس، وإلى دراسة الآراء التي تُعارض تصوّراتنا المُترسخة في عقولنا. 


لكن كثير منا في حقيقة الأمر -ليس لديه الرغبة في تغييرها، فالتغيير مؤلم، والحياة أجمل وأسهل وأسرع كلما كانت سطحية. كما أن السطحية هي ما أكثر ما يلفت الانتباه، لأنها توفر مساحة هائلة من الاهتمامات والآراء التي يُمكن الإدلاء بها في أسرع وقت ممكن. هكذا يُمكن الحصول على الكثير من الإعجاب، والتفاخر بعقلية مُتعددة المواهب ومُلِمّة بكل الأمور الهامة والتافهة على حدّ سواء!

     




لكن ماذا عن رأينا الحقيقي؟


كم مرة أخذت قسطًا من الهدوء وأغلقت فيها هاتفك وانفصلت عن عالم الانترنت وأعطيت نفسك فسحة من الوقت للتفكير في أمر ما؟ 


كم مرة حاولت أن تبحث فيه بشكل جدّي؟ أن تبدأ في القراءة عنه بغية الوصول إلى الحقيقة. أن تتمعّن في الآراء والأفكار المُختلفة والتي يُعبّر عنها كاتبيها بشكل مُطوّل ومُتعمّق في كتاباتهم، بدلًا من الاعتماد على الإيجازات المُخلّة التي تُقتطع من سياقها للدفاع عن وجهات نظر غير صحيحة؟


  

كم مرة قرأت عن الأفكار التي تُخالفك الرأي؟ لا أقصد الاطلاع عليها، بل أقصد القراءة عن أسباب اعتناق الآخرين تلك الآراء؟ كم مرة فكرت فيها بهدوء؟ بل كم مرة فكرت أصلًا قبل مُشاركتك؟!


  

مواقع التواصل الاجتماعي لا تعطيك الفرصة كي تُفكّر، لأنها لا تريد أن تمنحك لحظة واحدة من التفكير، فالحياة قصيرة ولا ينبغي أن نُضيعها في التفكير، يجب أن نلحق بقطار الأخبار والمناوشات وحروب التصريحات، وصراع الإعلاميين، وصراخ التقنيين، والمُفاخرة بأفضل الأجهزة المُشتراة، وعدد الكُتب التي قرأناها. وكأننا في سباق محموم لمعايرة بعضنا البعض، بالمعرفة غير الحقيقية وبالمعلومة غير المؤكدة وبالمظاهر الخادعة التي ترسم لنا صورة لا تشبهنا. 


لو عُدت إلى التعليقات على المواضيع القديمة في مواقع التواصل الاجتماعي، لأدركت على الفور تأثير الانفعالات الفورية التي تتسبب بها ”التريندات“ على أشخاص نشهد لهم برجاجة العقل وحُسن التفكير.


تغرينا مواقع التواصل وطريقة عملها بالرغبة في إدعاء الحِكمة وتجنّب الظهور ولو لمرة واحدة على أننا أُناس عاديين! فلا مجال أن تظهر بأنك غير مُلم بأمر ما، أو أنك تعرضت لخدعة أو لخيانة.


توسوس لنا تلك المواقع بحتمية الظهور بشكل مثالي، وبأهمية أن تكون آراءنا دائمًا صحيحة وفي توقيت مناسب للقضايا الرائجة، وإلا فلن يهتم بها أحد ولن يُتابعك أحد في ظل آلاف ممن يتظاهرون أنهم أشخاص حُكماء يعرفون كل شيء، ويستطيعون التنبؤ بما سيحدث بشكل مُسبق بناء على رؤيتهم الثاقبة!


   



  


اترك هذا العبث.


هي ليست دعوة إلى عدم التفاعل، بل إلى وضع التفاعل في سياقه الصحيح. ليس من المفترض أن تكون مُلمًا بكل شيء، بل يجب عليك أن تتعلّم أشياء جديدة بشكل يضمن لك سعة أُفقك. يجب أن تُساعدك تلك المعرفة على تفهّم الآخرين وإدراك معاناتهم ومحاولة مساعدتهم.


امنح نفسك الوقت الكافي للتفكير، ولا تُشارك رأيك إلا إذا كُنت مُتأكدًا من اعتناقك له. ولا تخجل من الرجوع عنه إن أدركت لاحقًا خطأه. 


لا تدّعي المعرفة وإنما ابحث عنها دومًا. فإن المعرفة لا تنتهي، وفي اللحظة التي تُقرر فيها أنك قد عرفت كل شيء، واكتفيت؛ سينقطع عنك كل جديد فتشيخ معلوماتك وتفقد اتصالها بالواقع المُتغيّر بشكل مستمر.


لا تبحث عن الكمال، فإنما أنت إن اكتملت مُتّ!


  

أحمد فؤاد

31 كانون الأول - ديسمبر 2022

author-img
أحمد فؤاد

تعليقات

5 تعليقات
إرسال تعليق
  • Assem Abdullah1/1/23 3:52 ص

    مقالة رائعة وقد فتحت عيني على نقاط كانت غائبة، لك الشكر على مشاركتها ايانا.

    حذف التعليق
  • Haifa photo
    Haifa1/1/23 11:42 ص

    سكت دهرا فنطقت ابداعا

    حذف التعليق
    • Ahmad Fouad photo
      Ahmad Fouad2/1/23 2:33 م

      مُمتن لكِ على تعليقكِ.

      آمل أن أكون عند حًسن الظن بي دائمًأ
      احترامي🌹

      حذف التعليق
    • سلمى photo
      سلمى17/1/23 9:18 ص

      الكاتب والصديق العزيز أحمد
      أنت تعلم أنني أقرأ كل ما تكتبه، وتعلم أيضًا مدى احترامي وإعجابي بموهبتك، وبقلمك الذي أؤمن بنزاهته ورقيه.
      وهنا أنت قد أثرت موضوع غاية في الأهمية، ولا شك أننا إلى الآن لا نملك حلول جذرية لمعالجته، اللهم إلا بعض الحلول الفردية التي تبدأ بنا وبالدوائر المحيطة بنا كالأهل والأصدقاء فيما عدا ذلك فقد نرى أن الخطر استشرى بشكل مفزع، فهوس التريند أصاب الكثير، وأصبح حلم المغيبين، حتى أن بعض اليافعين والشباب يكتبون على سبيل الشهرة عبارة (أنا جاي أثير الجدل) حتى وإن كانوا على ثقة بأن ما يبدون فيه رأيهم وآرائهم، هو خاطئ وغير صحيح
      لا أنكر أنني في معظم الأوقات لا أستطيع أن أخوض معارك مع مثل هؤلاء الحمقى، حفاظًا على سلامي النفسي، وتجنبًا للتطاول من مثل هؤلاء
      اعجبني جدًا عنوان المقال"إن اكتملت مت"
      نعم يا صديقي اكتشفنا بعد عمر من المعرفة أننا كائن خلق ليتعلم ويخطئ ويصحح ويتعلم، وجماله في نقصه وعدم اكتماله وما كان الله جل وعلا ليخلق الإنسان بهذه الصفة إلا وله من ذلك حكمًا بليغة هو يعلمها .
      شكرًا على كل ما تقدمه وتكتبه والأهم إيمانك بكل حرف يخطه قلمك
      دمت مبدعًا🌹

      حذف التعليق
      google-playkhamsatmostaqltradent