random
أخبار ساخنة

مُراجعة المجلد الأول "الإطار النظري" - موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية - عبد الوهاب المسيري

    



    


أظن أن كُل من سيُقدِم على قراءة المُجلّد الأول "الإطار النظري" لهذه الموسوعة سيندهش مثلما اندهشت أنا.


 وسبب الدهشة يكمن في عدم توقعي لأن يكون هناك تنظيرًا كثيفًا مُتعمّقًا مُستفيضًا عن مصطلحات مثل العلمانية الشاملة والعلمانية الجزئية والاغتراب والحداثة وما بعد الحداثة والنسبية السائلة والواحدية المادية ومفهوم التجاوز الإنساني والطبيعي المادي والثنائية التي تشملهما كمرجعية إنسانية لازمة لاتزانه، ودراسة مُتشعّبة تفكيكية عن النظريات الفلسفية الإنسانية الهيومانية وغير الهيومانية مثل الدارونية والشيوعية والماركسية، والحركات والطبقات المُختلفة مثل البروليتاريا والبرجوازية بالإضافة إلى الإشارة والإسقاط إلى وعلى المدرسة الفرانكفورتية ومدرسة كُل من فايبر ونيتشة وهيغل. وربط كُل هذه المفاهيم المُعقّدة والمُركّبة بقيام المؤسسة الصهيونية ودراسة اليهود واليهودية.

 

والحقيقة أن النماذج التفسيرية التي قدمها عبد الوهاب المسيري يعدّ أمرًا رائعًا لإدراك الأبعاد الكاملة لكيفية استغلال القوى الغربية للظواهر الاجتماعية والسياسية التي نشأت فيها الجماعات اليهودية المُختلفة على مرّ التاريخ وخاصة التاريخ الحديث، وإصباغ تلك الظواهر بصبغة تهويلية تُدمج في شكل إحصائي محض يملك كل مقومات الإقناع طالما لم يتم وضعه في سياقه الحقيقي. وبمجرد وضع هذه الإحصائيات ذائعة الصيت- والمدعومة من القوى العالمية العُظمى لأسباب اقتصادية وسياسية- في سياقها الحقيقي وربطها بالظواهر التاريخية في البلاد التي نشأت منها أو بمقارنتها بنفس الجماعات الأخرى في نفس الوقت أو نفس المساحة الجغرافية، تبدأ هذه الفرضيات والإحصاءات في التهاوي والتفسّخ، وتتضح التحيزات الكامنة في تلك المعلومات المُضلِّلة التي فُرِضَت علينا بخصوص اليهود كجماعة واحدة لها تاريخ واحد وحضارة واحدة وشعب واحد!

 

وقد اعترف عبد الوهاب المسيري في بداية موسوعته أن لكل كاتب تحيّزاته الخفية الكامنة أو الظاهرة في كتاباته، وأن السبيل الوحيد إلى الموضوعية هو أن يحاول كل كاتب أن يوضح هذه التحيزات، ذلك لأن التحيّز حتمي ولكنه ليس نهائيًا، ويصبح القارئ هو المُطالَب بأن يختبر بنفسه هذه النماذج التفسيرية للكاتب وأن يدركها ويُجرّدها ويُركّبها ويتفحّصها بعقله وفي النهاية يقبلها أو يرفضها كُليًا أو جزئيًا.

 

وعلى هذا الأساس بدأت قراءتي المُجلّد الأول في الموسوعة "الإطار النظري"، ولا أنكر أن الكاتب نجح في أن يجيب على الكثير من النقاط التي أجهَدَت ذهني لفترة طويلة بعد قراءاتي لبعض المُعضلات الفلسفية الكُبرى مما حقق داخلي توازنًا كنت أحتاجه منذ زمن طويل. لكن على الجانب الآخر خلق داخلي العديد من علامات الاستفهام الأخرى التي تولّدت بسبب عدم اقتناعي ببعض مما جاء في الكتاب، فالكاتب وقع في فخ التعميم الذي كان يُحذّر منه حتى شعرت في بعض الأحيان أن اتجاهه هو اتجاهٌ شموليٌ صرف. وللأمانة فقد أشار هو نفسه -في بداية الكتاب- إلى استحالة عدم وقوع أي نظرية في هذا الكون في مصيدة التقيّد بقدر مُعيّن من التعميم المُفرِط يمنحها السهولة الكافية للفهم والإدراك الأساسي والأولي بعيدًا عن أي تركيب مُتفرّع يجبرنا على التشعّب.

    



   

قسّم الكاتب العلمانية إلى نوعين: العلمانية الجزئية وهي فكرة فصل الدين عن الدولة في الأمور الحياتية دون التدخّل في الأسئلة الكُبرى (أي بعيدًا عن العقيدة) وأفرد العديد من الأدلة والتفسيرات، وهذا القدر من العلمانية مطلوب، بل هو بالأساس موجود في الدين الإسلامي الذي لا يقبل بوساطة كهنوتية بين الإنسان والإله، وبإقراره بأن واجب الإنسان أن يستحدث النظم التي تعينه على أمور الدنيا وتنظيم حياته. وذكر على سبيل المثال موقف الرسول محمد صلى الله عليه وسلّم "أنتم أعلم بشؤون دنياكم"

 

ونحن نعلم أن فكرة فصل الدين عن الدولة نشأت بالأساس كرد فعل على التغوّل المُفرِط الذي حدث للسُلطة الدينية في الغرب تحديدًا ومن محاولات هذه السُلطة السيطرة على الدولة في صراع ظل مُستمرًا لفترة طويلة من الزمن، ولكن بدلًا من الإصلاح انتقل الأمر إلى النقيض. أما في العالم الحديث أي في عصر الدولة القومية فقد حدث أن الدولة أصبحت تُسيطر على المؤسسات الدينية سواء لتطويعها ولاستغلالها لضمان عدم خروجها عن توجهات الدولة. أما العلمانية الشاملة فهي التي نشأت وتبلورت في صورة مُتقدّمة في فكرة نيتشه عن موت الإله، وإلغاء فكرة الجزء الروحي في الإنسان وانصياعه التام للطبيعة والمادة، قبل أن تدخل بعدها المرحلة السائلة.

 

وبعيدًا عن هذه الإشكاليات الشائكة، فقد رأيت هناك خلطًا بين التفسير الذي استخدمه الكاتب لمساوئ العلمانية الشاملة-والتي أتفق معه في كثير منها- وبين الرأسمالية التي تتقاطع مع العلمانية بكل تأكيد. وفي الحقيقة أن الأمر متشابك وبالغ التعقيد بالفعل، فهناك فارق ضخم بين الأفكار وبين الأيدولوجية، فهناك كثير من الأفكار الاشتراكية موجودة في الأديان السماوية، لكن الفرق يكمن في أيدولوجية تنفيذها. أيضًا في عصرنا الحالي الذي توحّشت فيه الرأسمالية بشكل مُخيف لتجعل تنميط البشر هدفها الأول لضمان بقائه كطاقة استهلاكية. ولكن وعلى الرغم من هذا التوحش إلا أن هناك الكثير من المناطق الرمادية في النموذج الرأسمالي، والذي لم يضع له الكاتب بديلًا يُمكنه حلّ إشكاليته. هذا بالإضافة أيضًا أن النموذج التراحمي الذي يدافع الكاتب عنه يحتوي أيضًا على الكثير من الإشكاليات التي لم يتعرّض لها وآثر الإشادة بإيجابياته فقط (وأنا لست مُعترضًا بالطبع على النموذج التراحمي لكن أشير فقط أن هناك إشكاليات أدّت سابقًا إلى خلق مشكلات مختلفة، فعلى سبيل المثال كان المجتمع الزراعي مليء بالعديد من المشكلات التي أدت إلى ظهور ثم توحّش النظام الإقطاعي)

 

في واقع الأمر؛ من الصعب إن لم يكن من المُستحيل تبسيط الأمر وخلق نموذج واحد وثابت لقياس كل النظريات، وإنما يمكننا كبشر-وكما اعتاد الإنسان عبر التاريخ أن نحاول إعمال العقل من أجل استنباط حقائق صغيرة تُمكّننا في النهاية من تركيبها لوضع حقيقة أكبر يُمكنها أن توضّح لنا بشكل مقبول إجابات شبه منطقية لأسئلة الإنسان الكُبرى. لهذا لا يمكن أن نقول إن الغرب -بشكل كامل- ماديّ متوحش بشكل كامل. ومُطلق هذا أمر سطحي، وإنما يُمكننا لقول أن سياسات الحُكّام في الغرب هي التي ترغب في السيطرة المُطلقة على العالم بشكل اقتصادي. ذلك لأننا لا يُمكننا التعميم والتسطيح لكلمة الغرب، فهناك منهم من يحاول أن يجد نظريات فلسفية مُتجددة ومختلفة مُعترفًا بفشل النظريات التي سبقته. ولهذا فإن الإمبريالية والاستعمار هي صفات لصيقة بالرأسمالية المتطورة المُتعلمنة، وليس مع العلمانية ذاتها.

     



    

لكن على الرغم من هذا التعميم المُبسّط غير الموضوعي، إلا أن قيمته الحقيقية تظهر حين وضعه في سياق موضوع البحث الأساسي الذي تتعرض له الموسوعة- وهذا ما أشار إليه الكاتب في البداية- بمعنى أن التعميم هُنا مفيد جدًا ليس كنقد متوازن للعلمانية أو للفلسفات الغربية بشكل عام، وإنما يكون مُفيدًا لأن هذا التعميم يُستخدَم كنموذج تفسيري لشرح وإبانة فكرة الصهيونية وأسباب نشأتها وربط استغلال الدول العُظمى الغربية بأفكارها التي فصلت النزعة الإنسانية عن مبادئها فنشأ لديها ازدواجًا للمعايير بين الرجل الأبيض وبقية سُكان العالم، من أجل توظيف الجماعات اليهودية باستغلال فكرتهم المُنغلقة على نفسها من أجل استعمار فلسطين وزرع الكيان الصهيوني كجيب استيطاني في المنطقة العربية لضمان حماية مصالحها في المنطقة.

 

وعلى هذا الأساس يجب اعتبار كُل ما جاء في هذا المُجلّد مُجرد مدخلًا للإحاطة بالمفاهيم التي سيستخدمها الكاتب في موسوعته في قادم المُجلّدات، وليس كمفاهيم نهائية مُطلقة للقضايا التي تعرض لها، لأن إن كان هذا هو مجال الدراسة (نقد الفلسفة الغربية والعلمانية) للزم التعمّق وبطل التعميم.

 

بالتأكيد هُناك نقاط اتفقت مع الكاتب فيها ونقاط أخرى اختلفت معه، لأنني وجدت إجابات منطقية لأسئلة شغلتني طويلًا، وإجابات أخرى جاءت غير مُقنعة.

    



   

لا شك أن الكتاب يحتوي على الكثير من المطبّات الفكرية الشائكة، وأن نظرياته تُقدّم أفكارًا مريحة للقارئ العربي والمُوحّد بالله بشكل عام. وقد أراحني ذلك في عدة مواطن، إلا أنه وفي ذات الوقت قد خلق داخلي إشكاليات أكبر تدفعني إلى البحث بتعمّق (خارج الموسوعة) من أجل المعرفة بغية إخماد براكين الأسئلة التي انفجرت داخلي بعد قراءتي للكتاب وتفكيكه والتمعّن فيه ثم إعادة تركيب أفكاره حسب رؤيتي الخاصة كقارئ وذلك كما رغب الكاتب.

 

 

المُجلّد الأول "الإطار النظري" لموسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، كتاب مُفيد جدًا كمدخل ليس فقط للموسوعة وإنما للنقاشات العربية (المتواضعة) لنقد وتحليل الفلسفات الغربية، وأيضًا كفرصة ممتازة للوقوف على نظرة مُفكّر ومُطّلع على الثقافة الغربية بشكل جيّد. صحيح أن الكتاب قد شابَهُ الكثير من التكرار، لكن لعلّ الكاتب قصد ذلك كون الكتاب موجهًا للقارئ العادي وليس المتخصص.

   

 

وأخيرًا؛ أعترف أنني صرت أكثر حيرة بعد قراءتي للكتاب.

 

تقييمي 3 من 5

 



أحمد فؤاد
الحادي والعشرون من آذار مارس 2021
google-playkhamsatmostaqltradent