لطالما طاردتني التساؤلات العجيبة في مراحل حياتي كُلها. ورغم أنها
كانت تبدو لي كثيرًا مجرد ثرثرة فكرية سَمَحَت لها بعض أوقات الفراغ، إلا أنني
وكُلّما كَبرتُ كُلّما وعيتُ أنها وسيلتي إلى إدراكٍ أعمق لرحلتي في هذه الحياة، وأنها
طريقًا حاسمًا لصقل شخصيتي.
فطنتُ بعد سنوات عُمري التي قضيتها في هذه الدنيا؛ إلى أنه لا يوجد
تساؤل بلا قيمة في حياة الإنسان. ففي كُل تساؤل تساءلته في أيٍ من أوقات عُمري
-منذ أن كُنت طِفلًا إلى أن صِرتُ كَهلًا- ومهما ظننت أنه كان تافهًا أو عظيمًا؛ كان
يُشكّل -بلا انتباه منيّ- إدراكي ويرسم مسار نُضجي كي أكون الإنسان الذي أنا عليه
حاليًا.
وكُنتُ كُلّما كَبِرتُ عامًا كُلّما تَنَاقَصَتْ أسئلتي- التي أبوح
بها لمن حولي. وبَدَأتْ تنمو داخلي رغبة حثيثة في الاحتفاظ بأسئلتي داخلي، والبحث
بنفسي عن إجابات لها بعيدًا عن دهشة الآخرين أو سخريتهم. من أسئلة فضولية طفولية
مثل "أين الله يا أبي؟" "كيف جئنا إلى هذه الحياة يا أمي؟"
" لماذا لا نتنفس مثل الأسماك في الماء" "لماذا لا يتحرّك جسد جدّي
الراقد أمامي لمجرد أنه مات؟!" إلى أسئلة عميقة ووجودية مثل "لماذا خلق
الله الشرّ؟" "هل الإنسان مُسيّر أم مُخيّر؟" "هل الأخلاق
مُكتسَبة أم طبيعية جينية؟"
ومن أغرب ما انتبهتُ له هو أن الأسئلة في حد ذاتها -وليس إجاباتها فقط- يمكنها أن تُعبّر عنّا وعن تغيّراتنا التي قد لا نعيها بوعينا المُنشغل بالعيش. تتطوّر أسئلتنا طرديًا بحجم المعرفة التي نستقيها، فتنتقل الأسئلة من مرحلة الدهشة والبراءة والفضول إلى مرحلة البحث والتقصّي والتأمّل.
وكثيرًا ما ينتابني هاجس تأمّل الماضي -والذي لم يفارقني حتى اليوم- والإمعان في محاولات لتفسير أفعال المحيطين بي في مراحل سابقة من عمري. يدهشني كثيرًا أنني أجد نفسي أُبرّر لهم بعض تصرفاتٍ كُنت معترضًا عليها-حينها- أشدّ الاعتراض. فأذعن إلى وجوبية بعض تلك التصرفات خاصة أنني أقوم بمثلها حاليًا!
وأدركتُ مُتأخرًا أن أبي وأمي لم يكونا عرّافيّن ممن يرون الطالع
عندما أخبروني كثيرًا منذ سنوات طويلة -أثناء احتدامنا في بعض مناقشاتي معهم- أن
أولادي سيعترضون على أفكاري وإرشاداتي مثلما أعترض أنا على أفكارهم، وأنني سأقوم في
المستقبل بمحاولات -أغلبها غير ناجح- بتقديم النصيحة لأولادي مانحًا لهم خُلاصة
تجربتي في الحياة فُيفضّلون -عِوضًا عنها- خوض الحياة بتجربتهم الخاصة حتى وإن أدت
إلى هلاكهم!
إنها الدائرة التي كُتِبَ على الإنسان أن يمر بها. أكاد أشعر أن
الحياة هي تكرار مُتتالٍ لا نهائي من المحاولات! انتقادات متبادلة بين مُراهقين
وشباب وكِبار، نُكرر ما قام به آباؤنا ويُكرّر أبناؤنا -بعد نُضجهم- مع أحفادهم ما
كُنّا نفعله نحن معهم!
أثارتني فكرة هذا التكرار، ورُحتُ بين الحين والآخر أُجري مقارنات
بيني وبين أبي أو بيني وبين ابنتي وأقارنها مع حكايات عمّي عن علاقة أبي بجدّي.
وأستقصي وأتحرّى وأختبر هذا التشابه المزعوم بيننا جميعًا في مراحلنا المُختلفة من
العُمر، فأُبهَتُ أحيانًا من مدى التشابه في الأفعال بين الأجيال المُختلفة. وأجد
أن جوهر الخلاف بين أبي وجدّي أو بيني وبين أبي مُشابه لنفس جوهر الخلاف بيني وبين
ابنتي، مع اختلاف الشكل الخارجي له ووسيلته وطريقة التعبير عنه.
وخَلصتُ إلى أن الذكريات التي نحملها معنا في رحلة حياتنا هي وسيلة
فعّالة للتعرّف على أنفسنا من جديد، بل وقد تكون سببًا لمساعدتنا في لحظات حاسمة، فهناك
بعضٌ من ذكرياتنا المسكونة في بُقعةٍ مُظلمةٍ في عقولنا، تزورنا فجأة وبشكل غامض. أراها
كإلهام إلهيّ يساعدنا في إدراك معنى ما قد غفلنا عنه، أو ليُحذّرنا من خطرٍ يدركه
شعورنا ولا تنتبه إليه عقولنا. قد يرى البعض أن مثل هذه الذكريات التي تبرق فجأة
في وعينا هي مجرد ذكريات مُهمَلة لا قيمة لها. رُبّما... لكنني لا أؤمن
بالمُصادفات.
صباح اليوم وأثناء سيري في الطريق، واجهتني بِركة
صغيرة من الماء-صنعها أحد جيراني من أجل شُرب الحمائم- تفصل بيني وبين مدخل
البناية التي أقطن فيها. ونظرًا لأنها بِركة صغيرة فقد قفزت من فوقها بسهولة
لأتخطّاها. ولا أدري لماذا خطرت ذكرى أبي فجأة على بالي؟ غمرتني ذكرى المرة
الأخيرة التي كان يستطيع فيها السير على قدميه دون مساعدة. جاءني صوته واثقًا في
أذني تمامًا مثلما سمعته منذ سبعة وعشرين عام عندما كُنت أسير بجواره ليلًا في
طريق عودتنا إلى المنزل.
"سنعود كل يوم إلى المنزل سيرًا على الأقدام. أخبرني الطبيب
بضرورة تخفيض الوزن، لهذا أحاول أن أسابق المرض قبل أن يفاجئني".
فَرِحتُ حينها؛ ليس فقط لأنني
أحب المشي، لكن لأن هذه الرحلات ستزيد من مساحة التواصل بيننا. لَمَستُ حينها عَزمه
على تنفيذ رغبته، لكنه لم يكن يعلم يومئذ أنه قد بدأ مُتأخرًا جدًا.
غير أن رحيل أبي المُفاجئ عن الدنيا قبل إتمامه الستين عام؛ أشاع داخلي الارتباك. فغيابه غير المُتوقع كسر أحد ضِلعيّ رسوخي في هذا العالم، وأزال غشاوةً خدعت بصيرتي بيقين وهميّ بأن دَقَّة قلبي التالية لن تكون الأخيرة بكل تأكيد. فَوَعيتُ عشوائية احتمالات الموت والحياة بالنسبة لنا كبشر، وبأن جهلي بتوقيت أجلي المحتوم -المُقدّر بالساعة عند الله- هو ما يعطيني ثقة زائفة بحتمية بقائي في الحياة لوقت طويل كحقيقة لا تقبل الشكّ!
أقتفي أثر أبي -صحيحٌ مُعافى يسير على قدميه- في ذكرياتي فلا أجد فيها
سوى أقل القليل، فأستعين ببعض الصور وقليل من حكايات أمي كي أواجه شَكّي بأن نشاطه ذاك
كان مُجرّد سراب.
وأفيق من شرودي الذي دام لأكثر من ساعة بعد أن غرقت في بحر من
التأملّات غير المترابطة. أعود إلى واقعي تدريجيًا، بينما تَنسَّل مِنّي ذِكرى أبي وسط ضجيج
الحياة من حولي، تاركة سؤال جديد قبع في ذهني دون إجابة شافية
"هل كان أبي يستطيع أن يقفز -في يوم من الأيام- مثلما قفزت أنا
اليوم؟!"
أحمد فؤاد
12 شباط فبراير 2021