قصة ملهمة
يتأثر الإنسان بالقصص. لهذا فهي دومًا مُلهمة له. مُحمّلة بالدوافع الإنسانية التي يفهمها كونه واحد من جنس البشر. تاريخ وتراث وأمنيات ورغبات وخير وشر. عالم كامل يُنسج في شكل حكاية.
لهذا فمن الطبيعي أن يحب القارئ قراءة روايات من هذه النوعية. والتي تتناول حقبة تاريخية غنية بالأحداث الدرامية المؤثرة على التاريخ. ورواية ”أوراق شمعون المصري“ كانت نموذجًا من هذا النوع. لكن ما يثير القارئ العربي تحديدًا -أيًا كانت ديانته ومعتقداته- هو تصوير الرواية لحقبة غنية جدًا سواء على المستوى الديني أو المستوى السياسي أو الاجتماعي بل والجغرافي أيضًا.
نجاح يتحدث عنه الجميع
قصة الخروج الكبير لقوم موسى عليه السلام من مصر، وما تبعها من أحداث عظيمة على رأسها التيه العظيم الذي حُكم به على بني إسرائيل في نطاق جغرافي محدد. هي قصة شديدة الارتباط بوجدان شعوب الشرق الأوسط خاصة في مصر. بالإضافة إلى ارتباطها وجدانيًا بنفوس معتنقي الرسالات الإبراهيمية جميعها ”الإسلامية والمسيحية واليهودية“ -مهما كانت لغتهم أو أصولهم. ربما لأنها القصة الوحيدة التي تتشابه أحداثها إلى حد بعيد بين هذه الرسالات الثلاث. خاصة أنها القصة الوحيدة التي ذُكرت وذُكر أهلها ”بني إسرائيل“ بكثافة في القرآن العظيم.
هذه النقطة تحديدًا ربما هي السبب الأساسي في نجاح رواية ”أوراق شمعون المصري“ ذلك لأن الكاتب لديه قارئ جاهز مُطلع على أغلب الأمور الهيكلية في هذه القصة بشكل لا يحتاج معها إلى أي مجهود لإعداد القارئ وتهيئته للدخول إلى القصة والتعريف بأبطالها.
السبب الثاني في رأيي وهو سبب مهم؛ هو الاستعانة بالموروثات المختلفة وسردها للأحداث -بشكل مقنن ومحدود- واستخدامها في غزل نسيج الأحداث بشكل مشوّق أدبيًا. فعلى الرغم على الاعتماد الغالب على النص القرآني والمصادر الإسلامية في هذه الرواية، إلا أننا نلاحظ في أكثر من مكان استعانة الكاتب ببعض الإسرائيليات (والتي هي غير مؤكدة وغير مرفوضة) أو بالمصادر المصرية القديمة أو المصادر المسيحية؛ سواء من العهد القديم أو الجديد. وهذا الأمر كان له أثر بالغ أدبيًا وروائيًا لسد بعض فراغات في الأحداث التي لم تُذكر في بعض المصادر التي بنى الكاتب روايته عليها (خاصة أنها غير متعارضة معها). وهي في الغالب معلومات غير دارجة بين القراء العرب بشكل عام. رفع ذلك من نسبة تقبّل أي قارئ للنص مهما كان معتقده وذلك لأنه سيجد لا محالة جزءًا من مصادره التي ألفها.
من النقاط الإيجابية في الرواية؛ تحوّل الأحداث إلى شبه الجزيرة العربية، وأجد في هذا الجزء تحديدًا تفوق واضح على صعيد النص والحوار والتحليل والشخصيات، مقارنة بالأحداث التي كان فيها شمعون مُصاحبًا لبني إسرائيل.
وعلى الرغم من ذلك، نجد أنه من المفارقة أن تكون أسباب نجاح الرواية هي في نفس الوقت هي أسباب ترهّلها وانخفاض جودتها أدبيًا!
سلبيات الرواية
الفئة المستهدفة... الجميع!
أظن أن الكاتب قد وقع في فخ اختيار الفئة المستخدمة. ربما يكون طمعًا -مشروعًا لأي كاتب- في استهداف عدة فئات من القراء أو ربما جميع الفئات. لكن للأسف - من المستحيل أن يكون هناك نصًا يجمع عليه الجميع. لهذا فإن التوجّه إلى استهداف الجميع لا بُد وأن ينتج عنه تسطيح للنص. ليس فقط في شكله الأدبي وإنما في مضمونه وعُمقه وتأثيره المتوقع على القارئ.
شعرت في كل خطوة من خطوات شمعون أو خطوات شهبور أو مع أي قرار محوري اتخذه أيًا منهما، أنها كانت تُمثل صراعًا لدى الكاتب يتمثّل في الهروب من الاصطدام بآراء القراء. مع مثل هذا التوسّع في إرضاء الجمهور يقع النص في حالة من الميوعة.
حضور باهت
ينأى كثير من الكُتّاب بالعادة الدخول في جدل تشخيص الشخصيات التاريخية الدينية. وهو أمر مفهوم. لكن الكاتب هنا وعلى الرغم من إيثاره الابتعاد عن هذا الأمر إلا أنه استعان بها في الأحداث بحضور مباشر، ولكن تأثير ذلك أن أظهر تلك الشخصيات بشكل باهت للغاية في الرواية. فالشخصيات الدينية مثل شخصية سيدنا موسى -على سبيل المثال- جاءت جدًا هامشية. نجده مرة مشاركًا في الموقف ولا يتكلم أو لا يشترك في الحوار، وكأنه وحيّ نوراني لا يناقش الناس الذين يتصارعون حوله ويطلبون رأيه، فيتجاهلهم وكأنه ينأى عن الكلام، ويتكلم على لسانه يوشع ابن نون!!! هذا الأمر شديد الاصطناع. إما أن تتفاعل الشخصية ولو بشكل محدود، وإما لا تظهر الشخصية مُطلقًا في الصراعات ويُنقل الأمر على لسان أحدهم.
ويُمكننا أن نلاحظ الفرق الكبير بين أحداث شمعون وسط قومه، وبين أحداث شمعون في جزيرة العرب في مكة والمدينة. يُمكنن تمييز الفارق الملحوظ في الحوار، وأيضًا في انخراط الشخصيات الرئيسة في المشاركة في الصراعات التي دارت حولها في هذا الجزء من الرواية.
هروب مستمر
كلما تقدّمنا في القراءة، كلما شعرنا بهروب الكاتب المستمر من الانطباع الذهنية لدى القُراء تجاه حكاية التيه وحكاية سيدنا موسى عليه السلام. وكأنه يخشى أن يتعارض لفظ واحد في نص الرواية -حتى وإن كان خياليًا- مع انطباع ذهني مُسبق لدى القارئ! وهذا ما نراه على سبيل المثال في الاستخدام المُفرِط في تركيب الحوارات لتأتي بعضها بنفس النص القرآني بشكل متطابق. صحيح أن هذا يأتي في بعض الأحيان لحثّ القارئ على تذكّر النص. لكنه لا يجب أن يكون بهذا الشكل المُفرِط الذي ظهر النص معه مُصطنعًا هزيلًا. فبدا كنُسخٍ مُبسطة وسطحية من الحكايات الأعمق المكتوبة في المتن القرآني أو توراتي أو الإنجيلي أو في كتب التاريخ.
وَعظ مُفرط
لم تنج الحوارات أيضًا من الوعظ المُبالغ فيه. فنتج عن ذلك حوارات نمطية سطحية لا تُقدم جديدًا ولا تناقش ولا تُظهر صراعات النفس البشرية ومجالات اختلافاتها الفكرية ومبرراتها التي تُفسّر اعتراضها على الدعوة إلى الله. وهذا يجعلنا نربط سطحية النص مع سطحية الشخصيات وضحالتها في الرواية، خاصة الشخصيات الثانوية، والتي هي جميع الشخصيات باستثناء شمعون المصري!
هذا يعود بنا إلى نقطة الفئة المستهدفة. ربما التفسير الوحيد للجوء الكاتب إلى هذا الأسلوب، هو التردد في اختيار فئة القراء المُقدم إليها الرواية. فمثل هذا الأسلوب البسيط يُقدَّم بالعادة إلى فئة عمرية ما بين سن مُبكّر للطلبة إلى سن المراحل الأولى من سن المراهقة. نص شبيه بكتب قصص الأنبياء البسيطة. وهذا ليس ذمًا في هذا الأسلوب. على العكس من ذلك، فإن هذا الأسلوب هو أفضل الأساليب التي يُمكنها أن تجذب تلك الفئة للقراءة والاطلاع، وربما تجذب أيضًا إليها فئة الكبار الذين لا يقرأون بالعادة.
تحولات غير مُقنِعة
من سلبيات الرواية أيضًا التحوّل في قرارات الشخصيات الرئيسة في الرواية -كشخصية شهبور على سبيل المثال - بدون أي دوافع مُقنعة. ربما سار الكاتب على أسلوب النصّ الديني الذي لا يخبرنا عن دوافع الشخصيات في القصص المذكورة فيه. لأن هدفه بالأساس ليس سرد القصة وإنما توضيح الموعظة. لكن هذا لا يصح أدبيًا وإلا فلِم نقرأ الرواية بالأساس ولم نكتفي بما جاء من تفسير وسيرة ومصادر سابقة تحكي لنا الأحداث دون التدخل فيها ولا فرض رأي عليها. ذلك لأن دورها كان إيصال المعلومة بشكل حيادي كمصدر، وليس كتجربة أدبية روائية تحاول أن تضع القارئ موضع الشخصيات المختلفة ومحاولة لتفسير مبرراته ودوافعه بشكل مُتخيَّل.
تحية وتقدير
من أجمل النقاط الإيجابيات في هذا الكتاب؛ التفاصيل الجغرافية والاجتماعية، والتي أثراه بالمراجع في آخر الكتاب. أحيّي الكاتب على هذه التفاصيل الرائعة والاهتمام بعرض الخريطة والأماكن الهامة مثل أماكن الخروج ومناطق تجمّع بني إسرائيل وأسماء الأماكن في وادي بكة وغيرها، ولم بأسمائها القديمة مع توضيح الاسم الحالي للمنطقة في عصرنا الحالي. هذا بالإضافة إلى ذِكر الشخصيات الحقيقية التي جاءت في الرواية، والمصادر التي استعان بها الكاتب.
أيضًا جاءت اللغة سلسة وفخمة وإن كانت لا تلائم لغة بني إسرائيل التي كانوا يحكوا بها في ذاك الوقت. خاصة وأنهم كانوا جزءًا من نسيج مصر لسنوات طويلة. ولم تكن -حسب ظني- بعض التعبيرات الفصيحة -الموجودة في تراث الجزيرة العربية- له وجود في لغتهم.
مجهود يستحق كل التقدير للكاتب أسامة عبد الرؤوف الشاذلي.
التقييم النهائي
رواية ”أوراق شمعون المصري“ رواية لطيفة للعيش في أحداث تاريخية غنية بشكل متصور وخيالي. فالحدث -أي حدث- يملك بريقًا عندما يتحوّل إلى حكاية.
ربما ستجد نسبة كبيرة من القراء، كثير من المتعة في الرواية. خاصة وهي مكتوبة بلغة جميلة وسلسة بالفعل.لكنها لا تقدم جديدًا في حقيقة الأمر. وربما لم يكن هذا هو هدف كتابتها بالأساس.
رواية للجميع… ليس أمرًا إيجابيًا بكل تأكيد!
- نجمة = لم يعجبني
- نجمتان = مقبول
- 3 نجوم = أعجبني
- 4 نجوم = أعجبني بشدة
- 5 نجوم = استثنائي